عندما يبدأ موسم الشتاء تبدأ الأعياد في أوروبا وأمريكا، ويضيئون أنوار الزينة في الشوارع والساحات العامة والميادين، وعلى نوافذ المنازل وداخلها، وعلى واجهات العمائر الشاهقة، وتتحول المدينة كلها إلى عرس كبير، وينشدون أناشيد خاصة بتلك الأعياد، ويتساقط الجليد فيتزلقون عليه ويمرحون فيه ويشكلون منه أشكالا جمالية أو كورا يتقاذفونها بمرح وسعادة. وما أن يدخل الشتاء في مدينة جدة حتى يستعين سكانها بالله خوفا من الأمطار، وتصبح قلوبهم وجلة مع كل غيمة تتشكل في السماء، ويصيبهم الذعر مع ظهور أي نذير بعواصف رعدية أو برقية، أو خبر ينبئ بقرب سقوط الأمطار. وهي نفس الأمطار التي كنا سابقا نعلن عنها أنها من بشائر الخير والبركة، وننشد لها أيضا الأناشيد البريئة الجميلة الساذجة ونحن أطفال نجتمع في حارات وبرحات وأزقة حبيبتنا جدة التي كنا نعرفها، ونستمتع بأكلات السمك عندما يأتي الغيم.. هكذا كنا في السابق. أما اليوم فيبدو أن البركة قد انتزعت حتى من الأمطار الجميلة التي تغسل الأجواء والطرقات، والنفوس التي كاد أن يصيبها العفن. فعندما تمرض النفوس، يختفي الخير وتغادر البركة، وتبقى الحسرة . ما أن يدخل الشتاء، ويحاول البعض الاحتفال بأعيادهم في أوطانهم العربية، حتى تطفو إلى السطح بعض الأمراض الخبيثة في مجتمعاتنا العربية العتيدة، فيفجر الضالون أماكن عبادتهم ويغتالونهم، ويحولون أعيادهم إلى أحزان وسعادتهم إلى بؤس وشقاء. ثم نحاول بعدها تهدئة المواقف فندعي أن هذا إرهارب يحدث في كل مكان، حتى في أوروبا وأمريكا. وننسى أن مجتمعاتنا العربية تعاني من أمراض كثيرة، خاصة بها، وننسى أنه لكي نعالج الداء فلا بد من الاعتراف به، والتعرف على أعراضه، ومواجهته بالدواء المناسب، ثم معالجته والقضاء عليه بالمنطق والفكر والحكمة. أما اتباع سياسة النعام وإخفاء الرأس في الرمال، فهي سياسة عقيمة تؤدي إلى مصائب أكبر وأخطر. وما أن يدخل موسم الشتاء حتى أصاب شخصيا بنوع من الفوبيا (الوسوسة والخوف) من أمراض الشتاء الاعتيادية، كالأنفلونزا والبرد واحتقان الجيوب الأنفية. فبالرغم من أنني قضيت جزءا من عمري في ألمانيا للدراسة، وكنت أمارس في جامعاتها كرة القدم حتى في مواسم الشتاء عندما يتساقط الثلج ويصل إلى قرابة الركبة، وعشت في مدينتي شتوتجارت وهايدلبرج حيث تصل درجة الحرارة إلى أقل من عشرين درجة تحت الصفر في بعض الأيام وتتوقف وسائل المواصلات، وبالرغم من أنني قضيت جزءا من حياتي أيضا في أمريكا، وبالذات في مدينتي كامبردج وفيلادلفيا في شمال شرقي أمريكا على الساحل الأطلنطي، حيث يهبط الجليد بغزارة وأضطر إلى السير قدما وسط تلال من الجليد لأصل إلى جامعتي، بالرغم من ذلك كله إلا أنني أصاب الآن بنزلة برد بمجرد أن أرى مناظر تساقط حبات الثلج على شاشة التلفزيون في بعض مدن أوروبا وأمريكا. أصبحت أنا وأمراض الشتاء أصدقاء متحابين متلازمين، وكما يقال، من الحب ما «أمرض». استمعت إلى نصائح كثيرة، فأنا أواظب على ابتلاع قرص فيتامين (سي) كل صباح، وعلى شرب عصير البرتقال والجريب فروت صباحا ومساء، وأخذ التطعيم السنوي ضد البرد والأنفلونزا، وممارسة الرياضة شبه اليومي والغطس في حوض الماء المثلج، وأحاول قدر المستطاع الاكتفاء بالسلام بالمصافحة بدلا من طريقتنا الشعبية الحميمة وهي التقبيل على الوجنات، دون فائدة، وكأنني أسدد دينا استلفته عندما كنت في سن الشقاوة والصبا. وما أن يدخل موسم الشتاء، حتى تهل حفلات الزفاف، وتزداد أعداد الشباب الذين تم (اقتيادهم) إلى قفص الزوجية. ربما كان هذا بسبب البحث عن الدفء في ليالي الشتاء الباردة، والله أعلم!. لذلك أسعدتني دعوة الصديق العزيز أحمد عائل فقيهي لحضور حفل نجليه وليد وهشام قبل أسبوعين تقريبا. وسجلت موعد الحفل في أجندتي، وطلبت من أحد أصدقائي المدعوين أيضا أن يمر علي بمنزلي لاصطحابي إلى مقر الحفل. ولكن ماذا أقول لموسم الشتاء، فقد جاءتني وعكة البرد المعهودة، وألزمتني منزلي لأكثر من عشرة أيام. واضطررت آسفا لللاعتذار لأخي العزيز أحمد عن عدم تمكني من مشاركته حضوريا بهجة زواج وليد وهشام، بسبب زائر الشتاء ثقيل الظل. أدعولهما يا أخي أحمد بالسعادة والهناء، ولك بالعديد والمزيد من الأحفاد. نحن لا نزال في زخم موسم الشتاء، وتحت رحمته. ولكن، سيأتي قريبا موسم الربيع ولابد أن يأتي، وتزقزق العصافير، ويعود للأشجار رونقها وخضارها، وتهيم الفراشات حولنا، ونستمع إلى فريد وهو يشدو «آدى الربيع عاد من تاني، والبدر هلت أنواره». للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 129 مسافة ثم الرسالة