تساقط الجليد على دول أوروبية وبعض الولاياتالأمريكية هذا الشتاء بشكل غزير لم يكن متوقعا. فمثلا لم تشهد مدينة لندن مثل هذه الثلوج منذ قرابة نصف قرن! وقد أثارت صور هذه الثلوج بعض الذكريات في مخيلتي عندما كنت أدرس في بعض تلك الدول. فعندما كنت طالبا في مرحلة دراستي الجامعية في جامعة شتوتجارت الهندسية في ألمانيا ولم أكد أتجاوز الثامنة عشرة من عمري، كنت أمارس أيضا لعبة كرة القدم في فريق تلك الجامعة، وكنت الطالب الأجنبي الوحيد في ذلك الفريق الذي يلبس بالمناسبة زيا مشابها تماما لزي فريق نادي الاتحاد في جدة. وكنا كثيرا ما نتدرب أو نلعب فوق ملعب تغطيه ثلوج تصل إلى مستوى الركبة، حيث يحتاج الأمر بالطبع إلى مهارات خاصة للجري والتحكم بالكرة في مثل تلك البيئة القاسية. بعد كل مباراة أو تدريب كنا نتسابق إلى الأماكن الخاصة بالاستحمام، وكنت أفضل الاستحمام بالماء البارد، أما زملائي الألمان فكانوا يفضلون الاستحمام بالماء الحار الذي لا أطيقه. فكان بعض الرذاذ البارد يتساقط على من يستحم في المكان المجاور لي، فيبتعدون عني وهم يصرخون مغتاظين: عبد الله أنت جئت من الصحراء، فكيف تستطيع تحمل مثل هذا الماء البارد؟ وكنت أجيبهم: اللي يعيش في الصحراء يستطيع تحمل أي شيء. وذات صباح في عز الشتاء، وكنت أقطن في شقة صغيرة في الدور الخامس في وسط مدينة شتوتجارت، نزلت من شقتي إلى الشارع متوجها إلى جامعتي في الساعة السابعة صباحاً، وكان البرد قارسا بالفعل. وقفت أمام باب العمارة باحثا عن سيارتي فلم أستطع التعرف عليها نظرا لأن الثلج كان يغطي كل شيء، السيارات والشجر وجميع الطرقات. وحتى خطوط «الترام» كانت معطلة في ذلك الصباح القارس. وفجأة سمعت صوت المشرفة على العمارة تسألني من خلفي لماذا أقف هكذا في هذا الجو البارد. تلك السيدة كانت أكثر ما يزعجني ويخيفني في تلك العمارة بل وفي شتوتجارت كلها، فقد كانت ممتلئة الحجم، مربوعة القامة، في منتصف الأربعينات، لها عيون زرقاء صغيرة غاية في البرود، وفيها الكثير من صفات المصارعين. ولا يأتي أول الشهر إلا وتقف لي تلك السيدة بالمرصاد لاستلام إيجار الشقة، دون رأفة بالطالب المفلس المسكين. نظرت إليها في نافذة مسكنها المطلة على الشارع، وكانت تقطن في الدور الأرضي المطل على مدخل العمارة، وأجبتها أنني أبحث عن سيارتي لأذهب إلى الجامعة. نظرت إلي السيدة المصارع وقالت لي بتشف وشماتة مزدوجة: ألا تعلم أن درجة الحرارة الآن هي السادسة والثلاثون تحت الصفر؟ كدت أسقط من الهول، فلا أعرف كيف استطعت البقاء حيا في ذلك الجو القارس. وقلت لها سوف أذهب إلى جامعتي سيرا على الأقدام. وبالفعل، أحكمت وضع قبعتي، ولففت وجهي وأذني وأنفي ورقبتي بشال صوفي، وأخذت أخبط في ذلك الثلج سيرا إلى الجامعة. بعد قرابة نصف ساعة وصلت إلى مبنى الجامعة وقد تيبست أذناي وتجمد أنفي وفقدت الإحساس في ساقي. دخلت مباشرة إلى كافيتريا الكلية، وتناولت قهوة ساخنة وشاطرا ومشطور وبينهما جبنة (يعني سندوتش جبنة بالعربي البسيط) فشعرت بالحياة تعود إلى أوصالي وبقية أعضاء جسدي. ثم صعدت بعدها إلى الدور الثالث حيث تقع صالة المحاضرات لكي أستذكر بعض الدروس، شبه واثق من أنني لن أجد محاضرة أو طلبة أو أستاذا. ولكني فوجئت بأن جميع زملائي كانوا متواجدين في انتظار الأستاذ، وكأنهم شياطين الإنس. كيف جاءوا، وكيف وصلوا، لم ولن أعرف، سوى أنهم ربما فعلوا ما فعلت في ذلك الجو القارس. وذات يوم علم مدرب كرة القدم في النادي الذي كنت ألعب فيه في برلين أنني أتعلم التزلج على الجليد، فمنعني من ذلك خوفا من أن أسقط أثناء التزلج فأصاب برضوض أو كسور تمنعني من ممارسة كرة القدم. عندئذ امتنعت عن محاولة التزلج، واشتركت في ناد لممارسة مصارعة الجودو اليابانية. وعندما عرف مدرب الكرة بذلك أيضا كاد يقتلني، ورفع قضية على نادي الجودو لنفس السبب فمنعني نادي الجودو من الاقتراب من بابه. بعد أعوام التحقت بإحدى الجامعات المعروفة في أمريكا لإكمال دراستي العليا، وفي مدينة كامبردج الملاصقة لمدينة بوسطن المشهورة ببرودة جوها وهوائها القارس في الشتاء، كان لدي محاضرة في الساعة السابعة مساء. وبعد أن تناولت العشاء في منزلي، وكانت شقتي في مجمع سكني خاص بطلبة الدراسات العليا في تلك الجامعة، قررت أن أسير إلى مبنى الكلية الذي يبعد قرابة عشرين دقيقة من منزلي. كانت الشوارع مغطاة بالثلوج وأنا أوحي لنفسي بالدفء. فوجئت بالثلوج تبدأ مرة أخرى في التساقط وبشدة. وبعد قرابة الربع ساعة وجدت نفسي أتوقف، ودموعي تنهمر بغزارة، بعضها من قسوة البرد وبعضها من شدة الحزن على حالي في تلك اللحظة. وكدت في تلك الليلة أحزم شنطتي وأبحث عن جامعة أخرى في غرب أمريكا حيث الدفء والشمس الساطعة، ولكني أخيرا سلمت أمري لله وقررت متابعة الكفاح في سبيل إنهاء الدراسة في تلك الجامعة المشهورة، على الساحل الشرقي من أمريكا، وهكذا كان حيث ولد هناك ابني الأكبر، الدكتور عمرو. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 129 مسافة ثم الرسالة