هل يمثل الانسحاب المرتقب للولايات المتحدة من العراق خلال عام من اليوم فرصة جديدة لولادة نظام إقليمي جديد، أم هل سيمثل هذا الانسحاب فراغاً كبيراً تحاول بعض القوى الإقليمية ملأه والاستفادة منه. وما هو دور القوى الرئيسية والفرعية في مثل هذا النظام، وهل ستسمح القوى الفرعية الصغيرة للقوى الإقليمية أن تستفرد بها، وتملي عليها رغباتها، أم أن لها خيارات أخرى، وكيف يمكن للقوى الداخلية أن تؤثر على سياسات الدول الإقليمية الكبرى، وتضعفها أو تعززها، وما هو دور الدول الكبرى في دعم أو تحجيم مثل هذه القوى الإقليمية. كل هذه الأسئلة أسئلة مشروعة ونحن نشاهد اليوم أمامنا مسرحاً مفتوحاً تتحرك فيه القوى الإقليمية وتحرك قطع الشطرنج فيه، وتحاول هذه القطع غير الجامدة أن تتحسس أماكنها وتتلمس قدرتها على الحركة والمناورة. وتذكرني هذه الأسئلة والمحاور المختلفة لها بقول العرب إنه كلما زادت الرئاسة، ارتفعت أعمدة البيت وعلت أطنابه، وكلما زاد كرم صاحب البيت وزاد ضيوفه، زادت مسؤولياته وعلا صيته ونفوذه. وفي العلاقات الدولية، بما في ذلك العلاقات الإقليمية بين الدول فإن هناك نوعين من التعاون أحدهما إيجابي والآخر سلبي. الأول يسعى نحو مد النفوذ عبر المساعدات والمعونات وبناء شبكات من الولاءات السياسية داخل الدول المتاخمة والبعيدة، وكذلك المصالح المشتركة، والآخر سلبي يميل إلى إملاء سياسات الدول الإقليمية عبر الضغوط السياسية وأساليب الإكراه المختلفة. وهناك أمثلة متعددة في كلتا الحالتين. ما يهمني هنا هو أن الدول الإقليمية أيضاً في سعيها الحثيث نحو بسط النفوذ تواجه مقاومة من قبل الدول المنافسة لها، التي تسعى إلى تقليص هذا النفوذ وتحجيمه، والعودة بالأمور إلى أصلها، بحيث يحل التوازن محل الاختلال أو عدم التوازن. ما شاهدناه في الأسبوع الماضي من زيارة لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان للبنان، وموقفه القوي والصريح لدعم المبادرة السعودية السورية لمنع أي تدهور قد يحدث إذا ما قدمت المحكمة الدولية اتهاماتها المرتقبة لبعض الأطراف اللبنانية، يحتاج منا إلى الكثير من التأمل. فالقيادة التركية حريصة جداً على الانفتاح على الدول العربية، خاصة الدول العربية في الشام بدءاً من سورية، وليس انتهاء بفلسطين. وموقف القيادة التركية من حصار غزه ونصرة الفلسطينيين أمر لا يختلف عليه اثنان، فهو موقف قوي ويسند الحق والعدل. وبالإضافة إلى ذلك، فإن تركيا دولة إقليمية قوية وهي لا تقبل أن تقوم بعض الأحزاب السياسية التي اعتمدت المغامرات طرائق وسياسات متبعة، أن تقلب الأوضاع في المنطقة وتخلق أزمة سياسية قد تؤدي بالدولة اللبنانية إلى أتون حرب أهلية جديدة، وبالتالي فإن الاستقرار السياسي ليس في لبنان وحسب، بل وفي المشرق كله ضرورة مهمة للسياسة الخارجية التركية التي اعتمدت منذ بداية هذا العقد سياسة الاستقرار وعدم الدخول في تحالفات قد تعرض المنطقة للأزمات والحروب. أما الدول الإقليمية الأخرى، فمعظمها ينظر إلى الأزمات كفرصة للدخول في عصب السياسات الداخلية للدول الأعضاء في المنظومة الإقليمية، وانتزاع مجالات محددة من التأثير والنفوذ فيها، من أجل اختراقها والسيطرة على مفاصل السلطة فيها. وتنطلق كل دولة من الدول الإقليمية الهامة من معطياتها الذاتية، واعتماداً على مصادر قوتها وتأثيرها في رسم وتنفيذ سياساتها الخارجية. وقد تكون مثل هذه السياسة المندفعة عبئاً ثقيلاً على الموارد الذاتية للدولة نفسها ولذلك يمكن تعديل بعض هذه التحركات التكتيكية في بعض الأحيان لجعلها تتواءم مع زيادة أو نقصان مثل هذه الموارد. ولعل المرآة الأخرى لزيارة رئيس الوزراء أردوغان إلى لبنان، هي الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري إلى طهران، وحاول من خلالها الحصول على دعم إيراني لاستقرار لبنان، وعدم استفزاز بعض الأحزاب السياسية المحسوبة عليها هناك، للاستقرار الحكومي والسياسي في هذه الدولة الصغيرة الحجم. ولا شك أن الوضع الداخلي للدول الإقليمية الكبرى يؤثر على سياستها الخارجية، فالوضع الاقتصادي المتميز والنمو الاقتصادي الذي تشهده تركيا في الوقت الحاضر يحتم عليها تبني سياسة انفتاح سياسي واقتصادي على جيرانها. وهذا يعني أن الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي في دول الجوار التركي سيدفع بهذه الدول إلى شراء المزيد من السلع والخدمات التركية، والعكس بالعكس. وبمعنى آخر، فإن المعادلة التركية العربية معادلة إيجابية في كلا طرفيها، ورغماً عن ذلك فإن هناك مشاكل خاصة بالمياه العابرة للحدود بين تركيا وجاراتها العربيات في كل من سورية والعراق، وهي موضوع يجب النظر إليه كجزء متمم لأي علاقات سياسية إيجابية كانت، أو سلبية بين الطرفين العربي والتركي. من ناحية ثانية، فإن إيران تعاني من ضغوط اقتصادية وسياسية دولية، ويحتم عليها الوضع الاهتمام بالأوضاع الداخلية، وتحسين مستوى معيشة المواطنين فيها. ولذلك فإن السياسة الإقليمية لإيران تحتاج إلى لجم بعض التطلعات للتدخل الخارجي من بعض الدوائر النافذة فيها. ومن المصلحة العليا لإيران العمل على تهدئة الأمور وتحسين الاستقرار في البلدان المحيطة بها، خاصة في كل من العراق ولبنان. وبناءً على ذلك، ربما نشهد مبادرات إيرانية مهمة في المستقبل في هذا الاتجاه. في المقابل يشتكي العراقيون من التعامل السلبي تجاههم من قبل بعض الأطراف الإيرانية. فعلى سبيل المثال، تريد إيران تعزيز نفوذها في العراق وتأصيله، ولكنها في الوقت نفسه تبني السدود على بعض الأنهار العابرة للحدود العراقية الإيرانية، مما يؤثر على حصول المزارعين العراقيين على احتياجاتهم من المياه. وقد صرح مسؤول زراعي عراقي مؤخراً بأن إيران تدفع بالمياه المالحة في نهر (البزل) إلى الأراضي العراقية ما سبب في تكوين بحيرة مالحة في العراق بطول أربعين كيلو متراً، وعرض كيلو مترين. والشيء المهم هنا، هو أن النوايا الطيبة يمكن أن تخلق تفاهماً وانسجاماً إقليمياً متميزاً، ولكن هذا الانسجام يتطلب كذلك تنسيق مختلف السياسات بما في ذلك السياسات المائية مع دول المشرق العربي، فالماء في النهاية هو لب السياسة في المشرق العربي، وإن ظهرت ملامح أخرى لتلك السياسات. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 119 مسافة ثم الرسالة