أسفرت نتائج انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي عن تحقيق فوز قوي للحزب الجمهوري الأمريكي، الذي بات يحكم قبضته على مجلس النواب الأمريكي ( 435 مقعدا ) حيث استطاع انتزاع 50 مقعدا على الأقل من الحزب الديمقراطي. في حين استطاع الحزب الديمقراطي بصعوبة الحفاظ على أغلبيته الضئيلة التي تقلصت في مجلس الشيوخ ( يضم مائة سناتور بواقع اثنين عن كل ولاية أمريكية) مع العلم أن الحزب الجمهوري كان يحتاج إلى 39 مقعدا فقط للسيطرة على مجلس النواب الذي أعيد انتخابه بالكامل، و 10 مقاعد للسيطرة على مجلس الشيوخ الذي تم تجديد ثلث أعضائه. الانتصار الذي أحرزه الحزب الجمهوري والذي جاء بعد زهاء عامين من هزيمته المدوية في انتخابات الرئاسة والكونغرس كان متوقعا وفقا للمراقبين والمحللين السياسين، وهو ما أكدته نتائج الاستطلاع بل وتصريحات الرئيس الأمريكي باراك أوباما نفسه الذي تدخل بقوة لصالح مرشحي حزبه، ومحذرا عشية انتخابات التجديد النصفي للكونغرس من خطورة سيطرة الجمهوريين مجددا على برنامجه الإصلاحي وخصوصا على الصعيد الاقتصادي. غير أن دعوة أوباما لأنصار حزبه وللمستقلين للتصويت بكثافة لصالح المرشحين الديمقراطيين مستحضرا شعاره القديم «نعم نستطيع» لم تجد آذانا صاغية من الناخبين المحبطين من جراء الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها ملايين الأمريكيين، و بطء وتيرة النمو الاقتصادي، واستمرار تداعيات الأزمة الاقتصادية الحادة التي تعاني منها الولاياتالمتحدة والتي انعكست في تفاقم حجم الدين العام الذي يقدر13،7 تريليون دولار أو حوالى 95 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتزايد العجز في الميزانية الأمريكية الذي سيصل إلى 1،5 تريليون دولار نهاية العام الجاري، وارتفاع معدلات البطالة إلى 10.2 % في أكتوبر (تشرين الأول) الفائت وهو أعلى مستوى للبطالة منذ 1983. وتشير الإحصاءات إلى أن عدد العاطلين عن العمل في الولاياتالمتحدة ارتفع خلال الأزمة الاقتصادية الأخيرة بواقع 8.2 مليون عاطل. و إلى بلوغ عدد العاطلين الإجمالي عن العمل إلى 15.7 مليون شخص، كما فقد مئات الآلاف منازلهم. الرئيس أوباما الذي صرح في وقت سابق أنه يتفهم حالة الإحباط والغضب والقلق على المستقبل لدى الأمريكيين وملمحا إلى إمكانية أن يستغل الجمهوريون ذلك في حملتهم الانتخابية علق على نتائج انتخابات التجديد النصفي بقوله: «إن الناخبين غير راضين عن طريقة عمل إدارته خلال العامين الماضيين» . وتابع قائلا: «ليس هناك شك في أن الاقتصاد كان الهاجس الأول للأمريكيين»، مشيرا إلى أن «ما عبروا عن إحباطهم حياله هو عدم إحراز تقدم كبير في الاقتصاد»، وتابع أنه يتحمل «المسؤولية المباشرة» لعدم إحراز تقدم مأمول في القضايا الاقتصادية. ولكنه استبعد إجراء أي تغيير محتمل في سياسات إدارته، خاصة فيما يتعلق بالقضايا الاقتصادية، خلال الفترة المقبلة. الجدير بالذكر أن الرئيس أوباما في خطاب سابق له في ولاية أوهايو ألقى باللائمة لتردي الأوضاع الاقتصادية على الإدارة السابقة محددا الانتخابات «هي اختيار بين السياسة التي وضعتنا في هذه الفوضى وبين السياسة التي ستنجو بنا من هذه الفوضي» مجددا موقفه الرافض لتمديد الإعفاءات الضريبية التي أقرها سلفه جورج بوش. وذكر أن الولاياتالمتحدة لايمكنها تحمل تقديم إعفاءات بنحو 700 مليار دولار لأشخاص هم من أصحاب الملايين بالفعل. غير أنه في ضوء نتائج الانتخابات الأخيرة سيواجه الرئيس أوباما أوضاعا صعبة في الفترة المتبقية من ولايته وسيضطر لخوض معارك صعبة مع مجلس نواب يسيطر عليه اليمين الجمهوري المتطرف الذي أفرز ما بات يعرف أمريكيا بحركة الشاي أو حفلة الشاي. التقسيمات المعروفة بين اليمين واليسار في الدول الغربية الأوروبية وفي مناطق أخرى في العالم من الصعب تطبيقها على الحالة الأمريكية حيث القول الشائع إن هناك حزبا أمريكيا واحدا له جناحان يمينيان. بالطبع هذا القول لا يعني عدم وجود فوارق معينة وأحيانا مهمة ما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري في ما يتعلق بالعديد من أمور السياسة الداخلية أو الخارجية، لكنها تبقى محدودة من حيث الأثر والتأثير. وبالطبع هناك شخصيات وزعامات ديمقراطية بارزة لعبت أدوارا مميزة وإيجابية في التاريخ الأمريكي المعاصر من أمثال الرئيس تيودور روزفلت، وجون كندي، ونستطيع أن نضيف الرئيس الحالي أوباما، رغم عدم تلمس نتائج عملية وملموسة على صعيد تنفيذ مشروعه الإصلاحي، وشعاره الانتخابي الشهير حول الحاجة للتغيير. يذكر من أسباب فشل أوباما عمق الأزمة و حجم التركة الثقيلة على الصعيدين الداخلي والخارجي التي ورثها من الرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وإدارته الفاشلة على كل المستويات والتي مهدت الطريق أمام فوز الديمقراطيين الباهر في الانتخابات الرئاسية والتشريعية العام 2008 . مع أهمية تلك العوامل غير أن السبب الجوهري هو أن الحزبين معا يخدمان ويعبران في التحليل الأخير عن مصالح القوى المتنفذة في داخل الولاياتالمتحدة، والمتمثلة في المجمع الصناعي / العسكري / النفطي، والشركات والبنوك العملاقة ومراكز الضغط ( اللوبيات ) القوية المختلفة التي لا تؤثر في القرار الأمريكي فقط، بل و ترسم الخطوط الأساسية للاستراتيجية الأمريكية الكونية وفقا لمصالحهم وأجندتهم الخاصة. من هنا لا نلحظ مشاريع متقابلة مختلفة وواضحة في البرامج بين الحزبيين المتحكمين باللعبة السياسية منذ تأسيس الولاياتالمتحدةالأمريكية على صعيد السياسات والخطط الاستراتيجية العامة المرسومة. الاختلاف هنا يكمن في التكتيكات والإجراءات العملية لتحقيق تلك الخطط، وكذلك في بعض أوجه السياسات الداخلية مثل التأمين الصحي، الضرائب، الرقابة الحكومية، الإجهاض وغيرها. السمة المميزة للانتخابات الأمريكية أنها صناعة إعلامية بامتياز، و تنفق فيها الأموال ببذخ ويجري إخراجها ببراعة على الطريقة الهوليودية. فقد أظهر تقرير صادر عن مجموعة صندوق نشاط الحملات الإعلامية أن المرشحين لانتخابات مجلس النواب والشيوخ الأمريكيين قد تمكنوا من جمع مبالغ قياسية اقتربت من عتبة ملياري دولار قبل أسبوع واحد من الانتخابات الأخيرة. وبينت المجموعة المختصة بمراقبة أنشطة الحملات الانتخابية، أن معدل ما أنفق على كل مقعد من مقاعد المجلسين قد بلغ أربعة ملايين دولار.. بالتأكيد تلك النفقات الباهظة متوفرة فقط لدى كبار الشركات والأثرياء الذين يمثلون 4% فقط من الشعب الأمريكي غير أنهم يستحوذون على أكثر من نصف الدخل الإجمالي للولايات المتحدة. الشعب الأمريكي معروف عنه أنه لا يهتم كثيرا بالسياسة، ويقع بسهولة تحت تأثير الإعلام القوي والمهيمن، كما هو مدفوع بمصالحه الاقتصادية المباشرة في المقام الأول.. وفي ضوء عدم تحقيق إنجازات عملية على هذا الصعيد، صب الناخبون نقمتهم على الديمقراطيين (علما بأن الأزمة وتداعياتها هي نتاج سياسة الجمهوريين الخرقاء بالذات ).. من هنا نفهم ظاهرة الصعود القوي للحركة التي أطلق عليها حفلات الشاي. وهي تيار يميني شعبوي متشدد في الحزب الجمهوري استطاع أن يستفيد من أخطاء وتقاعس وعجز أوباما الذي بات يشبهه البعض بالبطة العرجاء، لاستثارة قطاعات واسعة من الشعب الأمريكي وخصوصا إزاء قضايا حساسة مثل سياسة تعديل وضع المهاجرين غير الشرعيين (12 مليون مهاجر ). واستمرار تدهور الوضع الاقتصادي وذيوله المتمثل بالبطالة والفقر وتردي الخدمات، وما يعتبرونه ضعفا في السياسة الأمريكية في التعامل مع قضايا خارجية مثل خطر الإرهاب، واتفاقية المناخ، وإزاء دول مثل الصين وروسيا وإيران، ناهيك عن استمرار الأوضاع الملتهبة والمتفجرة في أفغانستان والعراق وباكستان وغيرها من القضايا. المؤكد أن نتائج الانتخابات النصفية لن تخرج الولاياتالمتحدة من أزمتها الهيكلية والبنيوية الداخلية العميقة، وفشل سياستها الخارجية، وإنما ستعمل على ديمومتها واستفحالها وتعمقها بصورة أخطر وأشد. للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو 636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 147 مسافة ثم الرسالة