أين ذهبت جهود الشيوخ والوعاظ، صرخاتهم على المنابر، زواياهم في معارض الكتب، والصيف، والربيع، والسيارات. أين ذهبت صور السيّاف الشرس، ونصله المشهر، وحكايات التخويف المتعاقبة. وتجمعات المارة، المكونة جمهورا لا يمتنع بعد كل الدراما الطويلة هذه. أين هي توبة الآتين عبر الحدود، يبيعون من جديد، ويمارسون التجارة عينها، ويستهلكون في أسواق تدر عليهم ربحا لا يماثله إلا ما يجري في سوق الإدمان والمخدرات، القائمة بنفس المشكلة، المعالجة بنفس العقوبة. هل يمكن القول إذن: إن العقوبات، ليست هي الحل. وإن الصراخ وحده في المعركة أيضا لا يكفي. إن الأمر ليبدو أحيانا، في التركيبة النفسية للمجتمع، والتفكير الذي يدعوه ليقامر باحثا عن بطالين، يمنحهم نقودا بالصعب يحصلها، بالسهولة يبددها، لإيجاد واقع مغاير للذي يعيش. في رواج الشعارات، وربا الدعايات، وفي انسياق الناس، إلى حديث المجالس والثرثرة والبحث عن أي بديل فوري، ووهمي، وبسيط. إنها صورة أخرى، لدعايات البنوك والشركات العابرة للقارات والقيم والعادات، أي للشعوذة الكبرى، بتحويل الحياة التعسة، إلى جنة من الأحلام المحققة والبيوت الممتلكة والزيجات الجميلة والسيارات الفارهة. في وعود الشركات للموظف العاطل من خمسة أعوام، بمنصب يليق، وراتب وفير، حتى يصدمه واقعه البائس، من مدير محتمل، إلى حارس أكيد. في طلاق، تؤجله المحكمة إلى عشر سنين، لأن القاضي غير متفرغ لهذا، ولأن طرفا لم يحضر بعد. في أحلام كثيرة تعطى في الريح، وتمنع في الشارع. إن الشعوذة تتلاحق إذن، وبأكثر من صورة، وفي أكثر من إطار. إن هذه الشعوذة الكبرى، هي ما يجر المرء إلى البحث عن مشعوذين صغار، لإيجاد حلول سريعة وفاعلة، برغم كونها وهمية وزائفة. إن أي مجتمع، يجد إحباطا ملموسا في واقعه، يرى أنه من المريح التماس حلم، وإيجاد أمنية، ولو في سراب الأوهام. إنه يخفف قليلا من وقع السقوط في هوة الفجوات التي يعيش، ومعرة الكبت الذي يلامس، وعطش الواقع الذي يحيا. ولهذا، لن يكون الحل في إعدام واحد، والعفو عن اثنين، بقدر ما يكون في ممارسة التوعية بشأن المشعوذين اللامرئيين، واللامشار إليهم. أولئك الذين يهيؤون من هؤلاء البائسين أفواجا وزرافات تصطف على أبواب المشعوذين الصغار.. إن هؤلاء، أي المشعوذين الأكبر، هم من يستدعي هؤلاء الصغار. من يفتح لهم أبواب الرزق، ويضمن لهم مسار العمل. وهم قبل ذلك، يملكون بنيانا أكبر، وعملا أكثر. ولا يردعهم قتل هؤلاء الحثالات الآتية عبر البحار والقفار. إن حكاية إعدام مشعوذ لا تنتهي بفصل رقبته عن جسده. بل تنتهي بتوعية العقول التي جاءته من كل مكان، وسافرت إليه من أبعد المناطق، لترى لديه فرجا وعلاجا. إن أكبر شيء يترتب على ذلك، أن يبحث الزبون عن دكان شعوذة آخر، لأن المرض المطلوب استئصاله، لم يكن في رأس المشعوذ، قدر ما كان أيضا في بطن المشعوذ عليهم والمسحورين والبؤساء من قطعة عريضة من هذا المجتمع السائر مع العاطفة والثرثرة والأحزان والبساطة والثياب البيضاء والقلوب المشابهة لها. إن 200 مشعوذ قبض عليهم العام الفائت، سيلحقهم 200 آخرون هذا العام، باعتبار التماثل، ولا عقوبة أجدت، ولا موعظة نفعت. إذ إن حجم الدافع إلى استمرار هذه السوق يظل أشهر من سياف وأوعظ من خطبة. [email protected]