حملت إلينا الأنباء قبل أيام، وليس كل ما تحمله الأنباء صحيحا، أن ثلاثين امرأة سعودية غادرن المملكة للعمل خادمات في البيوت القطرية، فكان ذلك مدعاة لغضب الغاضبين، الذين أخذتهم الأنفة وعز عليهم أن (تفشلهم) أولئك النساء، حين يقمن بذلك العمل الذي يرونه متدني المكانة مهينا. وتداعت مع الاحتجاج مقترحات بإيجاد أعمال للنساء الفقيرات أو صرف مرتبات لهن تغنيهن عن تلك المهنة، وهي مقترحات تصب في صالحهن ولا تضرهن. لكن ما يلفت النظر هو أن أحد أولئك المحتجين لم يكفه ذلك، فمضى إلى ما هو أبعد، حيث كتب يطالب وزارة العمل أن تسن قانونا (عاجلا) يمنع عمل المرأة السعودية خادمة بالخارج، كأن النساء حين يفعلن ذلك يفعلنه تبطرا واستمتاعا، وليس ضرورة واضطرارا. لو أن باب العمل في داخل الوطن كان مفتوحا لما امتهنت النساء تلك المهنة خارجه، ولا اضطررن إلى الارتحال، فليس مما يزخرف أحلام أي امرأة أن تعمل خادمة في قطر، وإنما هي قسوة الحاجة وشدتها، ومن الظلم الفادح المطالبة بقفل منفذ للحياة وجدته أولئك النساء مفتوحا أمامهن، طالما أنه لا بديل سريعا يسد حاجتهن ويحل مشكلة فقرهن. أم محد امرأة في متوسط العمر، هجرها زوجها واختفى من حياتها تاركا في عنقها أربعة من الصغار، يقطعها الألم وهي تشاهدهم كل صباح يغادرون إلى المدرسة يطوون بطونهم على الجوع ولا إفطار، ويتخبطون كل ليلة في الظلام ولا كهرباء، وتصطك فرائصهم كل ظهيرة على خبطات أبو سليمان يهز بابهم يتهددهم بالطرد إن هي لم تدفع الإيجار. بحثت عن مصدر دخل تسد به رمقها ورمقهم، فوجدت الأبواب مغلقة والعقبات متراكمة. لجأت إلى الجمعيات الخيرية فقيل لها: أنت متزوجة ونفقتك وأسرتك على زوجك، ابحثي عنه وألزميه بالنفقة. ذهبت إلى الضمان الاجتماعي فجاءها الرد: لست مطلقة ولست أرملة ولست معاقة ولا شيخة عاجزة، فكيف ندفع لك ونحن لا ندفع سوى لمن تحمل معها صكوك عجزها. ذهبت إلى أبيها المتقاعد وقد ناء كاهله بزواج جديد وأسرة ناشئة، تشكو له حالها، لعل من رحمها صغيرة يرحمها كبيرة، فجاءها رده رحيما بها، بها وحدها: «أنت بنتي وأحطك في عيوني، لكن (عيال الناس) ما ني مكلف فيهم». أبوها يريد منها أن تلقي بأولادها إلى الشارع قبل أن تدفن وجهها في حضنه الرحيم؟ لم يعد أمامها سوى مخرج واحد، أن تفترش الأرض عند باب المسجد أوقات الصلاة، ثم تنقل مجلسها إلى مدخل البقالة الضخمة المكتظة بالمرتادين تلتقط في حجرها ما تجود به النفوس الكريمة. رآها مرة أحدهم فأخذ يساومها على جسدها، وعدها أن تعيش في رخاء ما عرفته من قبل، ستفترش بدلا من أحجار الطريق بيتا مليئا بالأثاث الجميل، وستملأ بطون أولادها بالطعام والحلوى فلا حرمان ولا جوع، ولن يخيفها بعد اليوم وجه أبي سليمان الغاضب، ولن تسمع منه بعد ذلك صراخا ولا سبا. لكنها تغلبت على إغراء الرجل وجمعت قوتها ونهرته بعيدا عنها. وبعد ذلك اليوم عقدت العزم على الرحيل، ارتحلت أم محمد إلى قطر لتعمل خادمة في أحد البيوت بمرتب تسد به حاجتها وتصون به عزتها. لكن أم محمد ما إن فعلت ذلك حتى بدأ الناس يتدخلون في حياتها، قيل لها: (تراك فشلتينا) نسيت أنك تنتمين إلى السعودية، البلد الغني! فكيف تسمحين لنفسك أن تمتهني هذه المهنة المهينة، وفي خارج بلدك! ارجعي، وإن لم ترجعي سنطالب بإرجاعك! فنحن يمكن أن ننساك وأنت تتسكعين عند أبواب الجمعيات وحول سور الضمان، ويمكن لنا أن نغض النظر عنك وأنت تستجدين عند أبواب المساجد والبقالات وبين السيارات، ولا يعنينا في شيء إن تلويت وأولادك من الجوع، أو وقفت على شفا حفرة من السقوط، هذا كله لا يعنينا، ما يهمنا هو أن لا تخرجي خارج الوطن فيراك الناس فقيرة مهينة، وأنت تحملين في يدك الجواز الذي نحمله، (فنتفشل) من مشاركتك لنا فيه! أم محمد هذه، ليست امرأة متخيلة، وليست حالة نادرة، هي نموذج لحالات نراها كل يوم أمامنا، تحتاج منا أن نكون عونا لها على الفقر، لا أن نكون عونا للفقر عليها، فلا نحن الذين وفرنا لها العمل، ولا نحن الذين تركناها ترحل في بلاد الله تسد حاجتها. فاكس 4555382-01 للتواصل أرسل رسالة نصية sms إلى 88548 الاتصالات أو636250 موبايلي أو 737701 زين تبدأ بالرمز 160 مسافة ثم الرسالة