حين كانت المشاكل تواجهني وبخاصة العائلية كنت أحتفظ بها بداخلي، ثم أحاول أن أجد لها حلا، لكني اكتشفت مؤخرا أن حلولي مؤقتة، بسبب أنني أقع في المشكلة مرة ثانية، وهذه المرة قررت الاستعانة بعد الله بكم في مشكلة تواجهني وهي تختص بأبي وأمي. فأنا وإخوتي ندرس في الجامعة، ونحصل منها شهريا على مكافآت لمساعدتنا في شراء احتياجات دراستنا الجامعية ووالدي طلب منا جمعيا أن نسلمه تلك المكافأة الشهرية وهو سيتولى توفير كل احتياجاتنا، في البداية شعرت بالضيق ليس لأن والدي سيأخذ قيمة كل المكافأة بل لأن والدتي كانت هي التي تأخذها، ومع أني مقتنعة تماما أن الفرد منا وماله لأبيه، ولا أدري فربما وجهة نظرهما أن بقاء المال ووفرته قد يكون أحد المفاسد للشباب لذا فهم حريصون أن لا يتركوا بأيدينا مالا كثيرا، المشكلة أني لا أحب أن أطلب من الآخرين وبخاصة المال حتى لو كان والدي، ولي ما يقرب من شهرين والدي لم يعطني ما أريده، وكلما طلبنا منه ريالا واحدا قال ما عندي، تصرفات والدي جعلتني أشعر بظلمه لنا وأنه لم يوف بعهده معنا، وصرت كلما نظرت لأبي أشعر أنه خدعني ونقض عهده، وكلما اشتدت بي الحاجة للمال ينتابني نفس الشعور فكيف أتخلص من هذا الشعور؟ الهنوف الواضح يا ابنتي أنك معترضة أساسا على مبدأ أن يأخذ أبوك مكافأتك، ومعترضة أيضا أن يملك والدك حق الاحتفاظ بهذا المال الذي تعتبرينه مالك كما أنك تعتقدين أنه ليس من حق أبيك أن يمد يده لهذا المال ولا أن يتصرف به، يبدو لي أن هذه هي قناعتك، مع يقيني أن هناك صوتا بداخلك يقول برأي آخر مخالف لهذه الفكرة، وعليه فمن غير المستبعد أن يكون موقف أبيك منك وهو موقف كما أسلفت أقرب إلى عدم التعاون معك بشأن المال، ربما لربطه بين حرصك على أن تدفعي بمالك له وخشيته من أن يكون وجود المال معك سببا لعدم الاستقامة أو سببا لسلوك لا يحبه أباك، لذا نجده يقتر عليك في المصروف، وزاد المسألة تعقيدا أنك تتعاملين مع أباك بحساسية شديدة، ولا تطلبين المال منه وكأنك تعبرين له عن امتعاضك وعدم ارتياحك، ولحل مشكلتك مع أبيك نحتاج لجملة من الشروط لابد من توفيرها لديك، أولها نعم أنت ومالك لأبيك، عليك يا ابنتي أن تتذكري أن رحلة حياتك منذ مولدك حتى الآن رحلة مليئة بالتعب والجهد بذله أبوك كي يوفر لك ولأخواتك وإخوانك كل ما تحتاجونه من مال ومستلزمات الحياة، تذكري أن المال الذي جمعه أبوك وأنفقه عليك هو مال وفير وكثير، ومن أجل جمعه ثم إنفاقه عليك برضا وطيبة نفس وحب أنفق جزءا كبيرا من عمره في سبيل ذلك، فهل تستطيعين أن تعيدين لأبيك هذا العمر الذي أنفقه من أجلك؟ هل تستطيعين أن تعيدين له جزءا من صحته التي ضاعت منه من أجل ذلك؟ هل يمكن لمكافأتك أن تعوضه عما فقده من سنين وعافية وأعصاب وجهد؟ وماذا تساوي مكافأتك أمام ما أنفقه عليك، مع التأكيد على نقطة مهمة جدا وهي أنه كان يجتهد كي يجني ما يكفيك أنت وبقية أفراد أسرتك ويعطي ولكن بحب، وأنت اليوم تعطين وأنت كارهة لهذا العطاء، تعطين وأنت تتمنين أن لا تعطي، وأن تترك لك حرية التصرف بالمبلغ الزهيد الذي تعطينه لوالدك، نسيت أن ما فعله أبوك معكم، جعلكم جميعا تحسون أنكم أسرة واحدة متعاضدة متكاتفة يعين كل منكم فيها الآخر، تخيلي كيف ستكون ملامح وجهك وأنت تتعاملين معه حين تبقين محتفظة بمثل هذه المشاعر التي تحبسينها في داخلك باعتبارك صاحبة الحق في هذه المكافأة وأن ليس لأحد الحق لا والدك ولا إخوانك وأخواتك، مع أنك كنت طوال حياتك وأنت تعتبرين نفسك صاحبة حق في ماله وعمره وأعصابه وعافيته، ألا تعتقدين معي أنك حين تحتاجين باقي أفراد الأسرة قد لا تجدينهم؟ ومن حقهم عندئذ أن يقولوا لك إذا كنت رفضت أن تعيني أسرتك يوم كان لك دخل بسيط فمن حقها أن لا تقف معك إذا أنت احتجت لها، هذه هي قوانين الحياة من أراد أن يأخذ عليه أن يعطي، ومن أحب أن يقف معه الناس في محنته وأزمته، فمن واجبه أن يقف معهم في رخائه ولحظة وفرته، ومن يريد أن يشعر بدفء العائلة عليه أن يقوم بواجب تقديم هذا الدفء لها حين يكون بمقدوره أن يفعل ذلك، ولو لم يخزن النمل غذاءه أيام الصيف حين يتوفر الغذاء لما كان بمقدوره أن يتغذى وقت الشتاء على هذا المخزون حين لا يبقى من الطعام على سطح الأرض ما يمكن جمعه، عليك أن تتذكري كل هذا وأن تتذكري ما هو أهم من هذا، وهو أن المشاعر التي صنعتها في نفس أبيك لا يمكن أن يفهمها إلا على أنها جحود منك لكل ما فعله من أجلك، حتى لو لم تقصدين ذلك، راجعي حساباتك وصححي المواقف والمشاعر التي تم خزنها لدى والدك قبل فوات الأوان، وتذكري أننا ننجح في إغضاب من نحب ولكن قد لا نجدهم حين نريد أن نعتذر منهم، وقد لا نستطيع أن نراضيهم عند ذلك، وتذكري أن ما فعله المصطفى مع الابن حين أخذه لأبيه ليقول له: أنت ومالك لأبيك لم يكن في حسابه المال، بقدر ما كان في حسابه رضى وراحة الأب، فالمال يذهب ويعود ولكن حين نخسر رضا من بيده مفاتيح دخولنا للجنة فلن ينفع عندئذ مال ولا قصور ولا عقارات ولا ذهب ولا فضة ولا كنوز الأرض كلها، فما من شخص امتلك الملايين ونجح في أن يجعلها تذهب معه إلى قبره، وحتى لو أخذها إلى قبره كما فعل بعض الفراعنة إلا أنه بالتأكيد لن يستطيع الاستفادة منها هناك، لأن القوانين التي تحكم الحياة الآخرة تختلف عن قوانين الدنيا.