لقد سألني أحد الأخوة باليمن من من العلماء المعاصرين الذين قالوا بجواز إخراج زكاة الفطر نقدا إثر عرضي للمسألة بشكل موجز. أقول وبالله التوفيق أن المسألة أصلا تعود إلى الاختلاف بين العلماء في جواز إخراج القيمة بدل الزكاة المعينة لزكاة عروض التجارة والمواشي وهي الركن الثالث من أركان الإسلام . ثم جاءت مسألة زكاة الفطر فرعا عنها في هذا الخلاف، والخلاف فيها قديم على النحو الآتي بصورة مختصرة جدا: أولا: الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة تقيدوا بإخراج زكاة الفطر طعاما ومنعوا خروجها نقدا، وهؤلاء حصروا الفطرة في الأصناف واختلفوا في نوعية الأصناف من الطعام أيهما أفضل ويجزئ: فقال الشافعية والمالكية: يخرج أي قوت كان على أن يكون من غالب قوت البلد. وقال الحنابلة: الواجب منها خمسة أصناف وهي: (التمر والزبيب والبر والشعير والأقط) فإذا أخرج من غيرها لم يجزئه سواء كان المعدول إليه قوت بلده أو لم يكن. وأنه يجزئ،، واختلاف الحنابلة لورود روايتين عن الإمام أحمد إحداهما: لا يخرج إلا المنصوص. والثانية: يخرج ما يقتاته وإن لم يكن من هذه الأصناف. ثانيا: قول الظاهرية إنه لا يجزئ شيء غير التمر والشعير في إخراج زكاة الفطر تقيدا بالنص، وهي رواية عند الحنابلة كما أُشير سابقا في خمسة أصناف. ثالثا: الأحناف قالوا بجواز إخراجها نقدا فقد روي عن بعض الصحابة كمعاوية بن أبي سفيان وغيره وقال به أبو حنيفة وأتباعه، وإليه ذهب الثوري، والحسن البصري، وعمر بن عبدالعزيز. والذي اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية في حالة ما إذا كان إخراجها قيمة من النقود أو غيرها تترتب عليه مصلحة راجحة للفقير. ومن العلماء المعاصرين ولجان الإفتاء القائلين بالجواز: الشيخ/ أحمد شاكر رحمه الله. الشيخ/ يوسف القرضاوي. الشيخ/ محمود شلتوت مفتي الأزهر رحمه الله. الشيخ/ مصطفى الزرقا رحمه الله. الشيخ/ محمد علي الصابوني. الشيخ/ عبدالله ناصح علوان الشيخ/ عبدالحفيظ فرغلي الشيخ/ حسين بن علي بن عبد العزيز الصدى الشيخ/ علي جمعة من علماء الأزهر. كما ذكر الشيخ عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين عضو الإفتاء السابق وعضو هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بقوله: «لقد اختلف الفقهاء حول إخراج القيمة في زكاة الفطر، فالحنفية يجيزون إخراج القيمة نقدا، والجمهور يقولون: إذا وجدت الأصناف الخمسة التي تخرج منها الزكاة أو القوت فلا تخرج القيمة، وذلك لخدمة الفقراء. وقال الحنفية نظرا للحاجة فتدفع بالقيمة، ونظرنا إلى كثير من الذين يأخذونها يبيعونها برخص، فربما يشتري صاحبها الصاع بخمسة، فيجتمع عند الفقير عشرون صاعا فيبيع الصاع بثلاثة لأنه يريد الثمن، وكذلك لو تم إعطاء الفقير قيمة الزكاة نقدا لكان أربح له. (جريدة المدينة 27/9/1429ه العدد (16593). وكذلك فتاوى وتوصيات الندوة السادسة لقضايا الزكاة المعاصرة المنعقدة في دولة الإمارات العربية المتحدة الشارقة. ولجنة قطاع الإفتاء بالكويت. نقاط الاتفاق بين الجمهور والأحناف: 1 الأفضل إخراجها طعاما ما عدا بعض الأحناف لديهم تفصيل في ذلك. 2 المقصود سد خلة المساكين يوم العيد، وإغناؤهم في ذلك اليوم عن التعرض للسؤال. فكلهم متفقون من المذاهب الأربعة على مراعاة المستحقين لها بأمرين: أحدهما: حاجة الآخذ. والثاني: نفعه. 3 الكل خرج عن نص الحديث بتحديد الأصناف وتوسع فيها بأنواع الطعام. النقاط التي بني عليها جواز إخراج القيمة محل الخلاف: 1 من أخذ بالحكمة في ذلك بإغناء الفقير عن السؤال في يوم العيد. جعل إخراجها لمنفعة ومصلحة الفقير وحاجته بإخراجها نقدا خاصة إذا كان الوقت وقت رخاء لتنوع حاجة الفقير. فمثلا لو وجد مجاعة في بلد ما ولا يوجد طعام يشترى فالأوجب الطعام، لأن وجود المال مع فقد الطعام لا ينفع، وإذا وجد بلد ما وأهلها بيوتهم مليئة بالقوت من الطعام فحاجتهم إلى لباس وخلافه يتزينون به مع إخوانهم المسلمين فإغناؤهم عن السؤال هو بالمال. ولذا قال محمد بن مسلمة: «أيام السعة دفع القيمة أحب إلي وأيام الشدة دفع الحنطة أحب إلي» وقال الشيخ محمود شلتوت: «إذا كنت في المدينة أخرجت القيمة، وإذا كنت في القرية بعثت التمر والزبيب والبر والأرز ونحوها..». 2 عدم التقيد عند الجمهور بنص الحديث في الأصناف والتوسع فيها، والقول:»بإخراجها من غالب قوت أهل البلد» يعد خروجا عن نص تحديد الأصناف في الحديث، مما جعل للأحناف وغيرهم سبيلا لمراعاة حاجة الفقير والمسكين إلى النقد. 3 أن الأصناف التي ذكرت في الحديث لزكاة الفطر كانت في زمنهم قوتا معتادا للناس يدخر ويتداول كالدراهم، فكانت أولى بالإخراج. 4 إذا هناك من قال بجواز إخراج القيمة بدل الزكاة المعينة، وهي ركن في الإسلام، وهي رواية للإمام أحمد، والإمام البخاري وغيرهم، فمن باب أولى زكاة الفطر التي بين فيها النبي صلى الله عليه وسلم الحكمة في ذلك نصا (أغنوهم عن السؤال في ذلك اليوم) لأن المال يحقق الإغناء من طعام وخلافه. ولذا قال الإمام أبو حنيفة: «وزكاة الفطر مثل الزكاة، فإذا جاز أخذ القيمة في الزكاة، جاز كذلك أخذ صدقة الفطر من المال، لاسيما وأن ذلك عمل به عمر بن الخطاب، ومعاذ بن جبل، وعمر بن عبد العزيز في الزكاة المعينة، وذهب إليه الثوري والحسن البصري». 5 دفع الطعام لمن لا ينتفع به، وهو محتاج للمال لشراء ما يسد به حاجته في ذلك اليوم، يدفعه لبيع هذا الطعام بسعر بخس للحصول على الدراهم، مما يعود نفع ذلك لأهل البيع والشراء من التجار. وهذا ما ينطبق على عصرنا الحاضر، خلاف السابق فقد كانت حاجتهم للطعام أبدى من حاجتهم للمال. أما الآن فحاجة الفقير لا تقتصر على الطعام فقط، بل تتعداه إلى اللباس ونحوه. 6 من تقيد بحكمة أو «علة» الطعام في إخراجها، والتزم بإخراجها طعاما بناء على ذلك يرده بيان النبي صلى الله عليه وسلم في وضوح الحكمة أو «العلة» بإغنائهم عن السؤال في ذلك اليوم، وهو ما يحقق منفعة وسد الحاجة للفقير والمسكين، فبناء الحكم على ما ظهرت حكمته أو «علته» أولى في الأخذ بها للحكم. 7 لم يرد نص ينهى عن عدم إخراجها خلاف المنصوص فيما ورد، وهذا ما حدا بالجمهور في التوسع لتلك الأصناف، وحدا بغيرهم بالتوسع إلى النقد (المال). ومما سبق ذكره وعرضه يتبين أن الخلاف قديم والأمر فيه سعة. وخلاصة الكلام فيه إن الأفضل في إخراجها التقيد بما جاءت به السنة، فإن لم يوجد ما ذكر من تلك الأصناف فمما يشابهها بما يسد حاجة الفقير وسؤاله، وفي حالة ما إذا كان إخراجها قيمة من النقود أو غيرها تترتب عليه مصلحة راجحة للفقير فجائز إخراجها نقدا. والله أعلم.