رغم الانتقادات التي وجهت لسياسة الرئيس ترمب الداخلية، لا سيما ملفي كورونا والخطاب العنصري، إلا أنه على الصعيد الخارجي استطاع تحقيق نتائج مهمة في ملفات عديدة ظلت دون حلول لسنوات. ورغم أن الحظ لم يحالف الرئيس ترمب لتحقيق كثير من الأهداف والنجاحات، إلاّ أنه قدّم لجون بايدن الرئيس الجديد فرصةً لاستغلال هذه النجاحات واستثمارها في انطلاقة ولايته. وعلى هذا تقدم (الرياض) دراسة استشرافية حول التصورات المستقبلية للسياسة الخارجية الأميركية في عهد الرئيس بايدن لعدة ملفات دولية مهمة، مع تقييم سياسات الرئيس ترمب، والتلميح لمرحلة الرئيس أوباما على اعتبار أن السياسة الخارجية للولايات المتحدة في معظمها تُبنى على نتائج المراحل السابقة. السياسة الأميركية الجديدة لن تكرر الخطأ مع إيران بايدن.. بين سياستين متضادتين حتى تتضح السياسة الخارجية للإدارة الأميركية الجديدة لا بدّ من التطرّق إلى أهم سياسات الإدارات الأميركية السابقة، لا سيما إدارتي الرئيسين أوباما وترمب، ومدى تأثر إدارة الرئيس بايدن بنهجيهما السياسي. حروب يوغسلافيا والعراق وأفغانستان تكشف تهافت فكرة «الرئيس المهادن» أ. أوباما وتأسيس الفوضى أجاد الرئيس أوباما في خطاباته الحديث عن التعاون الدولي والبحث عن السلام، وتكلل ذلك بحصوله على جائزة نوبل للسلام، على الرغم من أنه لم يمضِ من ولايته سوى تسعة أشهر وسط استغراب العالم، لأن الوقت كان مبكراً جداً لتقييم مساهمته وإنجازاته في سلام اتضح لاحقاً أنه لم يتحقق منه شيء، ولم يفضِ إلى تغيير واقع النزاعات الدولية، بل أعطى فرصاً ثمينة لأطراف إرهابية كإيران وميليشياتها لتقوية مواقفها على حساب السلم والأمن الدوليين. كما أخفقت سياسة أوباما في العراق وأفغانستان ضارباً بعرض الحائط وعوده الانتخابية حولهما، وفي القضية السورية هدد أوباما نظام الأسد بالتدخل العسكري، لكنه لم يفعل ذلك على الرغم من استعمال الأسد أسلحة كيميائية، وتجاوز خط أوباما الأحمر الذي تحدّث عنه كثيراً، تاركاً الصراع قائماً ومزيداً من القتل والتدمير. وفي ملف إيران تقرّب أوباما من الملالي ووقع معهم اتفاقاً تخريبياً لم يتضمن إنهاء مخزون الأورانيوم المخصب، مما خلق اضطراباً وتهديداً مباشراً على أمن واستقرار منطقة الشرق الأوسط، إضافة إلى ذلك لم يهتم بخطر البرنامج النووي لكوريا الشمالية، واكتفى بسياسة العقوبات التي لم تثمر أي نتيجة تُذكر. ترمب رسم حدوداً للسياسة الأميركية يصعب التراجع عنها ب. ترمب.. أميركا أولاً تميزت إدارة الرئيس ترمب في دفاعها عن المصالح الأميركية بجرأة استثنائية تجاوزت الروتين التقليدي المتبع سابقاً، فحمل شعار «أميركا أولاً» رد الاعتبار للولايات المتحدة كقوة عظمى أمام التحديات الدولية، لا سيما النفوذ الصيني والروسي، كما راهن على سياسة العلاقات الثنائية، متخذاً سياسة تصحيح أخطاء أوباما والتي كانت سبباً في إضعاف موقف الولايات المتحدة في العديد من الملفات، لا سيما دبلوماسية القوة الناعمة والتعاون الدولي الذي أعطى انطباعاً أن هناك مرحلة تسودها الندية والصراع المتكافئ بين الأطراف، لكن الرئيس ترمب اتخذ سياسة واقعية اعتمدت تارة على الضغط وأخرى على المرونة. وسرّع الرئيس ترمب من نسق الأحداث حيث انسحب من بعض الاتفاقيات الدولية وتراجع عن بعض المواقف ليعيد المفاوضات لنقطة الصفر، مما أسفر عن خروج الولايات المتحدة من تفاهمات دولية عديدة كاتفاقية التغيرات المناخية، ومنظمة اليونسكو التابعة للأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة، ومجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، واتفاقية حظر استخدام الصواريخ الباليستية مع روسيا، ومعاهدة الشراكة الاقتصادية العابرة للمحيط الهادئ، ووقف تمويل وكالة إغاثة اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، وكذلك الاتفاق مع حكومة (هافانا) الكوبية، والبرنامج النووي الإيراني، ثم الخروج من منظمة الصحة العالمية بعد أزمة كورونا. وبشكل عام كان هدف سياسة الرئيس ترمب فك الارتباط الأميركي مع العالم، وذلك من خلال تقديم مصالح الولايات المتحدة على مصالح الدول الأخرى حتى لو كانت حليفة، تحت شعار (أمريكا أولا)، معتمداً على أسلوبين متناقضين، أسلوب التحذير والتهديد والاستفزاز، وأسلوب المرونة والمجاملة. وفهم المتابع لسياسة الرئيس ترمب من خلال هذا التناقض أنه افتقار لإدارة السياسة الخارجية، كونه لم يشغل منصباً سياسياً من قبل، لكن في حقيقة الأمر تحيط بالرئيس ترمب دائرة مختصة على مستوى عالٍ، تتعامل مع الملفات بعقلية مدير الشركة الباحث عن الحلول، والمستغل للفرص، والمتصرف في حدود المسموح به، دون أن يتجاوز هذا التوجه السياسة الخارجية الأميركية، ويدل ذلك على أننا لسنا أمام قلة خبرة للرئيس ترمب، لا سيما إذا ما رأينا المكاسب التي حققها لبلاده. ج. بايدن.. رجل حرب إن المتابع لخطابات الرئيس بايدن قد يتبادر إلى ذهنه أنه سيعمل على نهج سياسة أوباما، من خلال المراهنة على التعاون الدولي، والبحث عن التوافق في حلّ النزاعات، وتقوية دور الولايات المتحدة في الساحة الدولية، لكن في حقيقة الأمر أن الرئيس بايدن يعلم أن إدارته أمام تحديات صعبة، لا سيما أمام المكتسبات التي حققها الرئيس ترمب وصعوبة التنازل عنها، لأنها إنجازات كبيرة للسياسة الخارجية، كما سيجد بايدن نفسه أمام اتفاقيات وقعها ترمب ستحدّ من مساحة تصرف إدارته، عدا أن للسياسة الخارجية الأميركية خطوطاً مرسومة لا تتغير بتغيير الرئيس يرسمها فاعلون ثابتون. وفي المقابل هناك من يعتقد أن الرئيس بايدن رجل سلم، لكن تاريخه يظهر غير ذلك، لقد كان وراء العديد من القرارات العسكرية التي راهنت الولايات المتحدة عليها، وعندما كان يشغل منصب رئيس لجنة السياسة الخارجية في مجلس الشيوخ، قد صادق على قرار تدخل حلف الشمال الأطلسي في يوغسلافيا السابقة، والتدخل في أفغانستان والعراق عام 2003م، الأمر الذي يبين لنا أن قرارات بايدن في السياسة الخارجية هي أكثر تطرفاً من سياسة ترمب، حيث ساهم بشكل مباشر في تعقيد العديد من النزاعات الدولية، مما يؤكد أنه ليس بالسياسي الناعم الذي يبحث دوماً عن حلول سلمية عن طريق المفاوضات. لذلك أمام الرئيس الجديد رهان صعب، فاستغلاله لنجاحات ترمب على مستوى السياسية الخارجية سيضعه أمام انتقادات داخلية وخارجية، خصوصاً أمام داعميه في الانتخابات، وأما تراجع بايدن عن مكتسبات ترمب الخارجية يعني العودة إلى نقطة البداية، أي سياسة باراك أوباما، وهذا إخفاق في حدّ ذاته بالنسبة لبايدن الذي يطمح باتخاذ سياسة جديدة تحقق مكاسب جديدة، خصوصاً أن سياسة أوباما الخارجية ذات الطابع الساكن وعدم الجرأة في اتخاذ القرارات وعدم الوصول إلى تسوية للنزاعات، تعرضت لانتقادات واسعة، واستناداً إلى ما سبق نرى أن الرئيس بايدن سيستفيد من المكتسبات الكبيرة التي حصل عليها الرئيس ترمب في سياسته الخارجية، إضافة إلى تخفيض سقف بعض المطالب في ملفات معينة للوصول إلى حلول وسطى. وسنتطرق في هذه الدراسة إلى سياسته الخارجية من خلال دراسة استشرافية: wأولاً: العلاقات مع الصين تتميز السياسة الأميركية تجاه الصين بنهجها لسياستين مختلفتين بصرف النظر إن كان الرئيس جمهورياً أم ديمقراطياً، فتشهد العلاقات تصعيداً من خلال فرض عقوبات تجارية وضغوط دولية، ومن ناحية أخرى تتعامل الولايات المتحدة مع الصين كشريك تجاري استراتيجي، فاتباع أيّ من السياستين يرتبط بشكل مباشر بمدى احترام الصين ومراعاتها لقوانين المنافسة والتجارة الدولية. وتعدّ الصين أهم أجندة السياسة الخارجية الأميركية، كونها المنافس الأهم على الساحة الدولية، لذلك تراقب الولايات المتحدة بقلق تصاعد نفوذ الصين وتنامي قوتها في مختلف المجالات، اقتصادياً وتجارياً وتكنولوجياً وعسكرياً. كما تتواجه القوتان في معظم القضايا الدولية وخصوصاً التجارية منها، لا سيما مشروع طريق الحرير الجديد الذي ربط الصين بالقارة الأوروبية عبر استثمارات ضخمة، ليكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية، وفي الوقت نفسه عمق الخلافات الأميركية - الصينية. فطُبع على سياسة الرئيس ترمب تجاه الصين أسلوب الانتقاد والتهديد، حيث دائماً ما يشير في خطاباته إلى تفوق الولايات المتحدة على الصين تجارياً واقتصادياً، وهاجم النظام السياسي الاشتراكي، وانتقدها في أزمة فيروس كورونا باعتبارها مصدر الفيروس، وفشلت في محاصرته قبل انتشاره. كما دخلت الولايات المتحدة والصين في حرب تجارية تمثلت في تبادل فرض الرسوم الجمركية، وفي محاولة لحل هذه الأزمة وفي إطار ممارسة ترمب السياسة البديلة قام بزيارة للصين في نوفمبر 2017م، ومدح فيها الصين ونظامها السياسي، وبرأها من المشكلات التجارية التي واجهت الولايات المتحدة، وتمكن من الوصول إلى اتفاق تجاري أولي معها وصف بالتاريخي، والذي هدف إلى موازنة الميزان التجاري الأميركي وضمان التنافسية بين شركات البلدين عن طريق إلزام الصين بعدم دعمها لشركاتها، كما تضمنت الاتفاقية مواد حول حقوق الملكية والتجارة الإلكترونية، لكن هذا الاتفاق لم يتم بسبب تداعيات كورونا. وعلى إثر ذلك عاد الجانبان لتبادل فرض العقوبات التجارية، بحيث فرض ترمب عقوبات على شخصيات وشركات تجارية صينية، وصادق على قرار برفع التعامل الخاص التي تحظى به هونغ كونغ، ثم ردت الصين بفرض عقوبات على موظفين أميركيين وعلى شركة الدفاع الأمريكية (لوكيد مارتن) بسب مواصلتها بيع الأسلحة لتايوان، ثم هدد ترمب بمنع المواقع الإلكترونية الصينية (تيك توك) و(واتشات) باعتبارهما خطراً على الأمن الأميركي، كما عمل على وقف مشروع 5G لشركة (هواوي) الصينية. وبصفة عامة يمكننا القول إن سياسة ترمب تجاه الصين كانت واقعية، وأن توتر العلاقة بين الدولتين ظاهرة معتادة، فأعاد ترمب للولايات المتحدة مكانتها الدولية كقوة عالمية تفرض شروطها على منافسيها. لذلك خسارة ترمب الانتخابات الرئاسية خلّفت ارتياحاً كبيراً في الأوساط الصينية، وبصرف النظر عن سياسة الرئيس بايدن تجاه الصين، إلاّ أنه سيكون مضطراً للتعامل مع تنافسية شركاتها، ومواجهة النفوذ الصيني المتصاعد، كما سيعمل على الدفع بالاتفاقية التي وقعها ترمب مع الصين، والتي تعدّ مكاسب أميركية مهمة من المستحيل التنازل عنها، خصوصاً فيما يخص حقوق الملكية الفكرية والنزاعات التجارية والتكنولوجية. ثانياً: العلاقات مع روسيا دائماً ما تضع الاستراتيجيات الأمنية الأميركية روسيا الاتحادية على رأس قائمة التهديدات للأمن والمصالح الأمريكية، باستثناء مرحلة الرئيس أوباما، وكان الرئيس ترمب قد أعلن استعداده لدعم أوكرانيا بأسلحة ثقيلة ومتطورة من أجل التصدي للخطر الروسي، وذلك في تحدٍّ مباشر لها. في ردّ لها على الإعلان الإميركي قلصت روسيا عدد الدبلوماسيين الأميركيين في روسيا، ثم أوقفت الولايات المتحدة بدورها عمل عدة ملحقات دبلوماسية روسية، وفي مقدمتها القنصلية الروسية في سان فرانسيسكو. وعلى الرغم من ذلك هناك سياسيون أميركيون اتهموا الرئيس ترمب بعلاقات مودة تجاه الرئيس الروسي، حيث أقام الطرفان بتبادل معلومات أمنية سرية حصلت عليها إسرائيل حول تنظيم داعش رغم المصالح الأمنية المتضاربة بينهما. وطغى الوضوح بين البلدين في إعطاء الأولوية للمفاوضات، مما انعكس على العديد من القضايا الدولية التي التزم الطرفان فيها بالحوار وعدم اللجوء إلى الحلول الفردية، كاستمرار الصراع السوري دون حلّ، وتدخل الولايات المتحدة ضد المنشآت الكيميائية السورية دون اعتراض روسي، وعجز أميركي عن إنهاء حكم نظام الأسد، إضافة إلى كيفية الانسحاب الأميركي من الاتفاق النووي مع إيران دون اعتراض روسيا، بينما في المقابل كان موقف الرئيس ترمب صارماً فيما يخص اتفاقيات الأسلحة، حيث انسحبت الولايات المتحدة في فبراير 2020م من معاهدة القوات النووية الوسيطة مع روسيا، ثم أعلنت في 21 مايو 2020 انسحابها من معاهدة (الأجواء المفتوحة) الموقعة في هلسنكي عام 1992م من قبل 35 دولة، بما في ذلك جميع دول حلف الشمال الأطلسي، والتي تهدف إلى تدابير بناء الثقة تجنباً للنزاعات المسلحة، والسماح بالتحليق فوق الأراضي المعنية من قبل جميع الدول الموقعة. كما عرقلت إدارة ترمب المفاوضات في 2019م و2020م مع روسيا بشأن تمديد معاهدة (ستارت) الجديدة المرتبطة بخفض الأسلحة النووية الاستراتيجية، والموقعة من قبل أوباما ونظيره الروسي ميدفيديف عام 2010م، وعلى الرغم من كل ذلك وجدت روسيا في ترمب ما لم تجده في رؤساء أميركيون سابقون، حيث أبدى استعداداً أكبر للتفاهم معها، لا سيما في بعض القضايا الدولية التي صعب حلّها منذ عقود. وهذه السياسة عكست وعي الرئيس ترمب وإدارته بأهمية روسيا للوصول إلى حلّ لبعض الملفات، كما تعدّ في الوقت نفسه سياسة براغماتية لتفادي الدخول في نزاعات لا فائدة للولايات المتحدة منها. وفي ظل انتهاج السياسة الواقعية للرئيس ترمب سيعمل الرئيس بايدن دون شك على استثمار المكتسبات السياسية للولايات المتحدة في علاقتها مع روسيا، لا سيما تبادل المعلومات الأمنية، والتفاوض حول إيجاد حلول سلمية حول مشكلات الشرق الأوسط، إضافة إلى التفاوض بشأن الاتفاقيات المتعلقة بالأسلحة، والتي خرج الرئيس ترمب منها. ثالثاً: العلاقات مع إيران انسحب الرئيس ترمب من الاتفاق النووي مع إيران تصحيحاً لسياسة أوباما؛ والذي يرى أن الاتفاق لا يضمن تدمير البرنامج النووي الإيراني، إضافة لعدم التزام إيران بالاتفاق من الأساس، حيث واصلت تطوير برنامجها في الخفاء، لا سيما أن هذه الاتفاقية تخدم المصالح الاستراتيجية الإيرانية وحليفتها روسيا على حساب أمن دول المنطقة، لدرجة وصول حزم ترمب تجاه إيران حد اغتيال قائد الحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني. لذلك يعدّ الملف الإيراني من أكبر التحديات للرئيس الجديد بايدن، فإن عاد لاتفاقية أوباما مع إيران فذلك يعدّ انهزاماً للولايات المتحدة، لأن الاتفاقية تخدم مصالح إيران وحلفاءها، ولا تضع حدّاً لبرنامجها النووي، كما أن بقاء الوضع الراهن على حاله سيُعدّ فشلاً لأنه لا يحفز إيران للتخلي عن برنامجها النووي، ويحرمها من الاستفادة من العلاقات التجارية مع إيران مستقبلاً، مما يفتح الباب على مصراعيه أمام الصين وروسيا لانتهاز هذا الفراغ وتنمية نفوذهما في المنطقة. وأمام هذه المعطيات والمداخلات السياسية يبقى الحلّ الوحيد أمام بايدن هو مراجعة الاتفاقية مع إيران، وفرض اتفاق جديد بشروط جديدة لا تغيب مصالح دول المنطقة، والتي تعدّ المتضرر الأكبر من اتفاق أوباما. رابعاً: العلاقات مع كوريا الشمالية استحوذ البرنامج النووي لكوريا الشمالية على خطابات الرئيس ترمب، وجرى تسويقه بشكل مبالغ فيه، فبين التهديد العسكري والدعوة للحوار والمفاوضات لم يتغير شيء في القضية، لأن الموقف الأميركي منها ثابت لا يتزحزح، لا سيما أن الولايات المتحدة لا تريد وجود دولة نووية يحكمها دكتاتور موالٍ للصين، رغم يقينها أن هذا النظام لا يهدف إلى ضرب المصالح الأميركية، ولا التقرب الفعلي للصين، بل الهدف ضمان بقائه، والاستفادة من المساعدات المادية مستقبلاً، مع ضمان عدم تدخل الولايات المتحدة بخصوصيات النظام وطريقة حكمه. وكان الرئيس ترمب قد التقى نظيره الكوري الشمالي ثلاثة مرات للتفاوض، وكان أول لقاء للرئيسين على أرض كوريا الشمالية، كما وقعا عام 2018م في سنغافورة على اتفاق تفاهم مبدئي لنزع الأسلحة النووية، لكن فشلا في هانوي عام 2019م في الوصول إلى تفاهم حول العقوبات الدولية، والتنازلات التي ستقدمها كوريا الشمالية حيال ذلك. وعلى الرغم من هذه المبادرة الأميركية في خرق السياسة المألوفة، إلاّ أن كوريا الشمالية واصلت تطوير برنامجها النووي، وطورت صاروخاً بالستياً جديداً، لتؤكد عزمها على مواصلة إستراتيجيتها العسكرية دون أن تأبه بسياسة الإدارة الأميركية. وعلى الرغم من أن الرئيس ترمب قد حقق نوعاً من التقارب وبناء الثقة، إلاّ أن وصول بايدن إلى حكم الولايات المتحدة يعني العودة إلى نقطة الصفر، لأنه اشترط في حملته الانتخابية تدمير كوريا الشمالية لبرنامجها النووي نهائياً، وبما أن هذا الأمر من الصعب تحقيقه دون تنازلات ومساعدات واستثمارات تسيل لها اللعاب، فإننا سنشهد في مرحلة بايدن استمرار كوريا الشمالية في تجاربها النووية والبالستية، إضافة إلى التصعيد مع جيرانها وخلق مناخ مشحون من التوتر والتهديدات والتعديات. خامساً: العلاقات مع أفغانستان لم تعد الولايات المتحدة مهتمة بأفغانستان كما كان سابقاً، لأنها أدركت أن وجودها في أفغانستان لن يحل النزاع، فهذه حرب غير منتهية كلفتها كثيراً مادياً وبشرياً. ونظراً لذلك نهج الرئيس ترمب سياسة التفاوض مع طالبان، وتوصلا في 29 فبراير 2020م لاتفاق يقضي بخروج القوات الأميركية من أفغانستان قبل 21 أبريل 2021م، ليترك بناء الدولة في يد حكومة أفغانستان وطالبان، وبالفعل قلّص الرئيس ترمب قواته من ثلاثة عشر ألفاً إلى أربعة آلاف وخمس مئة جندي، لضمان مكافحة الإرهاب وعدم سيطرة طالبان على الدولة من جديد. لكن في حقيقة الأمر سيواجه الرئيس بايدن وضعًا أكثر صعوبة، لأن طالبان إذا التزمت بعدم تنفيذ هجمات على القوات الأميركية، فإنها في الوقت نفسه لن تلتزم بذلك تجاه الحكومة الأفغانية، مما يعني استمرار النزاع بين الحكومة وطالبان. ولهذا فإن الرئيس بايدن حسب تصريحاته الانتخابية لن يسحب القوات الأميركية كلياً، لكنه سيعمل على الحفاظ على قوة صغيرة لضمان مكافحة الإرهاب، وأمام استحالة تمديد الوجود الأميركي حسب الاتفاق الذي أبرمه ترمب مع طالبان، فإن بايدن سيلجأ إلى الاستعانة بجهود بعض الدول للوساطة في حلّ مقبول للطرفين، كما أنه من المتوقع أن يعمل بايدن نفسه على التدخل في المفاوضات من أجل الوصول إلى اتفاق سلام. سادساً: العلاقات مع تركيا تلعب تركيا دوراً مهماً في الحفاظ على المصالح الأمنية والاستراتيجية لحلف الشمال الأطلسي عموماً، والولايات المتحدة بشكل خاص، فتحتضن على أراضيها قاعدتين عسكريتين أميركيتين تابعتين لحلف الناتو، وهما قاعدة أنجرليك الجوية المزودة بأسلحة نووية ومحطة كوريجيك الرادارية. كما تعدّ تركيا ممراً تجارياً استراتيجيا، فتربط العالم بآسيا الوسطى والقوقاز، والتي تحتفظ بأهم احتياطي عالمي من النفط والغاز، لذلك تستغل واشنطن تحالفها مع تركيا لتوفير وخلق فرص استثمار لشركاتها في هذه المنطقة، وفي المقابل تقدم الولايات المتحدة سراً وعلناً دعماً غير مشروط لتركيا في نزاعاتها بالمنطقة وتوسيع نفوذها لتنافس بذلك الصين وروسيا، رغم فرض العقوبات الشكلية على مؤسسة الصناعات التركية. إضافة إلى ما ذكر أن الولايات المتحدة تخطط لصنع ما يسمى الشرق الأوسط الجديد، وقد أقر أردوغان دعمه لهذا المشروع في خطاباته وفي حواراته مستنداً على دعم غير محدود من الولايات المتحدة لتركيا في هذا الجانب، ولهذا نؤكد أن دور تركيا في المنطقة لا يرتبط بإرادتها، وإنما يرتبط بما تريده الولايات المتحدة منها، كاستعمالها أيضاً للضغط في الملفات الإقليمية كالعراق وسورية وليبيا وغيرها. ونظراً لأن مدّ النفوذ التركي وتصدير فكره يخدم المصالح الأميركية فإن هذه الأخيرة لا تتدخل في هذا المشروع، بل تضغط بقوة على الاتحاد الأوروبي لزيادة المساعدة لتركيا ومنحها امتيازات تمكنها من تحقيق نموها الاقتصادي. والأدهى من ذلك أن الرئيس ترمب قد دعم تركيا في قضايا كان الطرف الآخر فيها الاتحاد الأوروبي، على غرار النزاع التركي - الفرنسي، والمرة الوحيدة التي هدد فيها الرئيس ترمب تركيا بعقوبات اقتصادية كانت عندما اجتاحت القوات التركية شمالي سورية، لكن سرعان ما تمت تسوية القضية، لأن حجم المصالح الاستراتيجية المشتركة بينهما يفوق أي خلاف. لذلك من الواضح أن الرئيس بايدن سيكمل السياسة نفسها تجاه تركيا، بمقابل الحفاظ على الدور التركي نفسه في المنطقة، لكن مع محاولات لعب دور الوساطة في النزاعات بين الدول العربية وتركيا للوصول لتسوية النزاع السوري والليبي. سابعاً: العلاقات مع الشرق الأوسط اتبع الرئيس ترمب سياسة واقعية في الشرق الأوسط أسفرت عن منطقة أكثر استقراراً، رغم تصريحاته الانتخابية قبل تنصيبه والتي أثارت تخوفاً لدى العالم العربي والإسلامي، وعلى عكس ذلك كان ترمب خلال مرحلة حكمه أكثر تعاوناً ودعماً للدول العربية الحليفة، وقد هاجم في خطابه الذي ألقاه في الرياض 21 مايو 2017م الإرهاب، ولم يربطه بالإسلام كما فعل من قبل في خطاباته، مشيراً إلى أن ما يزيد على 95 ٪ من ضحايا الإرهاب هم مسلمون، فقدم رسالة واضحة هي أن العلاقات الأميركية - العربية راسخة، وأن احترام الإسلام والمسلمين ثابت. لذلك تعتمد الولايات المتحدة في علاقاتها مع العالم العربي على تحالفات قوية، وتعدّ المملكة العربية السعودية ومصر والإمارات العربية المتحدة أهم الحلفاء في الشرق الأوسط، باعتبارهم دول محورية في مكافحة الإرهاب، وقوى إقليمية لها دور بارز في حلّ النزاعات في المنطقة، كما أنها شريك تجاري مهم، وحليف ضد المطامع الإيرانية، وعلى الرغم من وجود بعض الاضطرابات السياسية بين الجانبين في أحايين معينة، إلا أن العلاقات سرعان ما تعود إلى مجراها التقليدي وهو التحالف الاستراتيجي. وتعامل الرئيس ترامب مع القضايا العربية بحذر ولم يقحم نفسه في النزاعات الإقليمية، واحترم المصالح الاستراتيجية لحلفائه، وفي الوقت نفسه لعب دور الوسيط لحل النزاع القائم بين دول الخليج ومصر مع قطر. وبالفعل بدأت مساعي ترمب في هذه القضية تعطي نتائجها، فهناك مؤشرات حول اتفاق قريب لحل هذا النزاع، كما أقدم ترمب على نهج سياسة أكثر واقعية حيث شجع دولاً عربية للتطبيع مع إسرائيل كخطوة أولى في مسلسل حلّ الدولتين، وبالفعل تكللت مجهوداته بالنجاح، عندما وافقت البحرين والإمارات العربية المتحدة على تطبيع علاقاتهما مع إسرائيل لحلّ النزاع وضمان أمن وسلام المنطقة وقيام دولة فلسطين. لذلك ومن دون شك سينهج الرئيس بايدن السياسة نفسها، والمحافظة على العلاقات الثابتة والاستراتيجية مع الدول العربية دون التدخل في مصالح حلفائه، مع الحفاظ على استراتيجية الوساطة في حلّ النزاعات. وختاماً، يمكننا القول إن الرئيس بايدن قطعاً لن يغير في سياسة سلفه، لأن ما حققه الرئيس ترمب مكسب كبير للولايات المتحدة وحلفائها في المنطقة، وليس أمام الولايات المتحدة سوى العمل مع حلفائها للحفاظ على هذه المصالح والمكتسبات ودعمها، لا سيما أمام تنامي أطماع فاعلين آخرين في المنطقة كروسيا والصين.