المطلع على الأدب العربي القديم سيلاحظ حضور أشكال نثرية متعددة من مقامة، وخطابة، ونادرة، وحكاية عجائبية، وبعد موجة الاتصال بالحضارة الغربية تسللت إليه أشكال جديدة لم يكن لها وجود؛ كالمقالة، والّرواية، والمسرحية، والقصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، تعد (ق ق) فنّا مستحدثا طارئا، دخل الأدب العربي بفعل التّلاقح والترجمة وانتشار الطباعة والصِّحافة، ولا يستوي هذا الفن الجديد إلا بمقومات أساسية هي: الحدث والشخصيات، والزمان والمكان، والحبكة، والرؤية السردية، ويتميز بعدة خصائص كقلة الكم ووحدة الانطباع، والقبض على الشعاع الخاطف واللحظة العابرة، وقد أسهم عدة رواد في تطوير هذا الفن الجديد كتابةً وإبداعا، نذكر منهم: محمود تيمور، طه حسين، مبارك ربيع... إن المتابع للسرد القصصي الحديث يلاحظ التوق المستمر من المبدعين والقراء نحو التجديد والتحديث والتجريب بعد أن ازداد الاتجاه نحو العالم السردي وتوطت العلاقة بين المتلقي وفن القص, وبعد أن أطلق الباحثون العنان للمنافسة والإتيان بالجديد ومن الأجناس السردية التي ما زالت في حالة محاولة تجريب ومقاربات القصة القصيرة جدا تتسابق الأطاريح حولها؛ لما تتطلبه من اشتراطات نظرية «لكنها مراوغة تطبيقيا بما يجعل كتابتها ليست يسيرة كما أنها ليست عسيرة...»(1) القصة القصيرة جدا فن لحظة عابرة ينهض على حالة التأزم الذي يحدث انفجارا على صورة فكاهة أو لمحة تغاير عادية الحدث القصصي المحكي لتصل العقدة إلى حالة الانفجار بنفس السرعة المفاجئة التي بدأت بها وهذا يجعل عملية التبليغ صادمة بسبب ضغط اللحظة وخصوصيتها في محاذاة ذات مبدعها مجسدة درجة الإحساس الذي مرره في عمقها. ومما يتضافر مع هذه المسارات حساسية تواتر الوعي والمراوغة وتكنيك التساؤل واندغام الإنساني وغير الإنساني وتوظيف الحركة الدرامية في تصعيد السرد القصير جدا كما يحدث في الأجناس السردية الأخرى، ولكن بحدود أوسع واختزال أكثر. إن القصة القصيرة جداً فن محير نظرا لطبيعتها الشاعرية تتلامس كثيرا مع طبيعة الشعر لاسيما قصيدة النثر في اختزال الحدث والتكثيف اللغوي، بوصفهما ينهضان على الانزياح –الذي به تتحقق الشاعرية، وهذا يؤكد أهمية تضافر المحتوى والشكل ومحدودية المسافة البينية بينهما دون قصور أو احتراز، ولعله من الضروري في بناء أي نص يحمل سمات ق ق ج من حمولات إبداعية على مستوى الشكل وحمولات فكرية على مستوى المضمون. وهذا ما تذهب إليه نظرية التعالق الأجناسي، ومن تبعات هذا التلاقي بين (ق ق ج) وقصيدة النثر أنهما يسعيان إلى الدلالة لا الصوت، قصيدة النثر تنحاز إلى السرد كعنصر مساند للبناء الدلالي، بينما ق ق ج تراهن على اللغة الشاعرية انزياحا بالمفردات واختزالا في التعبير. وإذا كانت هذه أهم محطات الاتصال والتواصل بين الجنسين فإن ملامح الانفصال بين ق ق ج وقصيدة النثر تظهر أهم ملامحها في أن ق ن تتخذ من الانزياح البياني غاية بينما ق ق ج توظفه كوسيلة لتحقيق حالة الإدهاش المعنوي والإبهار الدلالي. إن القصة القصيرة جدا في الأدب العربي والأدب السعودي خاصة ما زالت في مرحلة محاولات وتجارب، والمغامرة في التجريب تكسر عادية الكتابة التقليدية فيخرج النص التجريبي منفتحا على الثراء المستمر في الشكل والأسلوب والمحتوى، فالكتابة تتجاوز الاتجاهات الجمالية المألوفة بوصفها ممارسة تخييلية واعية وضبط إشكالياته في علاقته بالأجناس الأخرى، والباحث غالبا ينظر إلى التجريب على أنه خرق لضوابط الجنس الأدبي، إذن هو بحاجة إلى تأكيد ما في الذاكرة من خلال ممارسة تحدث وفق مراعاة التوقعات، هذه المغامرة في التجديد الشكلي والأسلوبي مؤسسا وفق تجربة القراءة والكتابة. فالقصة القصيرة جدا تستوعبه وتدرك متطلباته على مستوى السرد بوصفه اختبارا لممكنات الكتابة.. إذن لا يمكن الحديث عن التجريب في القصة القصيرة جدا دون الحديث عن الأسلوب الشخصي الذي يميز كاتبا عن غيره في معالجته الفنية للقصة. ولذلك تعد القصة مجالا خصبا للبرهنة على مهارات فردية في الأداء الأسلوبي. لا يكفي في التجريب هدم المرتكزات الفنية والجمالية، بل لا بد له من تصور معرفي، يبرر هذا الفعل، فالرؤية تتعلق بزاوية المعالجة المستندة إلى وعي جمالي معين، وتوجه فني ما، وخلفية معرفية معينة، ومتحكمات محددة. ومن خلال فرز عينات من المجموعات القصصية السعودية القصيرة جدا الصادرة حديثا تبينت الباحثة أن ل(ق ق ج) معايير بنائية عديدة ليست على إيقاع (واح د) فهي في حالة صعود وهبوط أو التفافية مفعمة بحالات الإدهاش وتحولات من خلال التتابع أو التأزيم أو التناوب، مما يجعل لحظة التبئير تتجه نحو المفاجأة بفعل استخدام وسائل تقانية عديدة مثل الفانتازيا الحلم والمنولوج أو اعتماد الحذف والوصف وغيره، كما لاحظت الباحثة تسارع مغامرات جيل الحاضر في ممارسة الكتابة في هذا الجنس ذكورا وإناثا لذا ارتأت الباحثة إرسال نظرة إلى المشهد الأدبي النسائي في المملكة. يزخر المشهد القصصي النسائي في المملكة بكوكبة من الكاتبات أسهمن في إثراء النتاج الأدبي في البلاد» والباحثة وهي بصدد تتبع عالم هذا الجنس المراوغ وقع اختيارها على المجموعة القصصية (الطيور لا تلتفت خلفها)(2) للقاصة منيرة الأزيمع أنموذجا، وصاحبة المجموعة التي بين أيدينا، تعد من جيل الشباب الذي ضرب بسمهم في مجال الإبداع القصصيّ السعودي، فما موضوعات المجموعة؟ وما الأساليب التي وظفتها وصولا إلى مراميها؟ المجموعة صدرت عام 2009 عن دار الانتشار العربي وتضم 41 ق ق ج في 89 صفحة. حققت القاصة مهارات فنية عالية، نصوص المجموعة شكل أسلوبي جديد عبارة عن فلاشات سريعة، تميزت بالإيجاز والقدرة على اختزال الحدث مع المحافظة على اشتراطات الجنس السردي. الطيور لا تلتفت خلفها كعنوان ونص مواز، توشح بحمولات دلالية مختلفة، يصعب الإحاطة بها في مرتكز محدد، علما بأن العنوان لم يستقل قصة معينة في المجموعة الأمر الذي يمكنه من الانفتاح على اتساع التأويل وتعدد التفسيرات وإتاحة المجال للتخمينات. ورغم تنوع القصص إلا أن الكاتبة قد اختارت عنوان المجموعة لتجعله عنوانا مستقلا لا يمثل القصص الأخرى من حيث الدلالة الصوتية، ربما لدلالته الإيحائية في نسيج معظم القصص، إذ إننا سنلتقي مفردات ودلالات الطيور والعصافير والنوارس في قصة (كينونة، وحدة، نسيان بالأمس، على النافذة، اختزال، علمتني الطيور، منطق) وفي هذا عملية تواصلية بين العنوان والمجموعة أكثر إقناعا وتميزا.. والعنوان كما عرفه «لوي هويك» (Loe Hoek): [مجموعة العلامات اللسانية، من كلمات وجمل، وحتى نصوص، قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتُعيّنه، تشير لمحتواه الكلي ولتجذب جمهوره المستهدف.(3) لقد كانت مقاربتنا لهذه المجموعة باعتبار الموضوع الذي اخترنا تناوله، لا بد يتصدر الكتاب العنوان الجميل، لأن العنوان الجميل يؤثر في الأذن، بالنسبة لكل كاتب لا بد للعنوان أن تكون له ميزتان: أدبية وموسيقية، أدبية: يعلن عن العمل ويلخصه، وهذا ما نلاحظ تميز: «الأرض الجريحة» به إذا إنه يعلن قبل البدء أن كل الأحداث التي سيأتي على ذكرها سيكون لها نصيب من الجرح الذي يطبع الأرض. وموسيقية حسب «ستندال» (Stendhal) ال(ق ق ج) عند القاصة منيرة، ضئيلة الحجم، معدودة الكلمات، قصيرة الجمل، تعتمد المعاني الإيحائية، في تتابع، وتسريع، وتبئير.. مسترشدة بقولة فيثاغورس «لا تقل القليل بكلمات كثيرة، بل الكثير بكلمات قليلة» وهي في ذلك أنواع: .... وظفت الرمز في بعض النصوص بأسلوب يدهش القارئ ويجر قلم المتلقي غير العادي إلى أجواء النصوص فتفتح أمامه التأويلات المتعددة وتفتح أفقه على استكناه مراميها, كما نجحت القاصة في توظيف تقانات السرد في اقتناص تناقضات الحياة مثل قصة (... الجدار) وتقديمها في قالب سردي إيحائي دال يتناسب وإيقاع العصر اندمجت القاصة منيرة الأزيمع بوعي مع مكونات الطبيعة للكشف عما تحس به الذات البشرية من أحاسيس سرية من خلال علامات وإشارات لغوية، من منظور فكري وثقافي أن الطبيعة تحمل من الأسرار، يتفاوت الناس في التفاعل معها وفي طريقة الحفر عنها، واكتشاف ما تضم من جمالية فنية. والقاصة منيرة كانت في معظم قصصها صديقة مقربة لكثير من الكائنات مثل الحيوانات/ القطط (ص81) والطيور العابرة خاصة العصافير والنوارس والأشجار والصحراء والورد والريح (ص89) ففي قصة (الحياة.. بجانب الجدار) وهي فاتحة المجموعة منحت القطة بعدا بشريا برؤية عميقة ترتبط بالإحساس الإنساني إذ يمكن للإنسان أن تحثه نظرات الحيوان وإيماءاته وأصواته وحركاته فيتخيل نفسه داخل فكره وقلبه وعواطفه فيتعلم منه كما قال نتشيه، وكثيراً من الديانات توصي باحترام الحيوان، وتعلم الناس كيف يرون في الحيوان عمق روح البشر.. يقول الملفوظ السردي التالي «كانت تقف، وتنظر إلي وأنا انقل الملعقة من الطبق إلى فمي...» ص7 (.. وهي تنظر إلى فمي. فأحاول إزعاج هذه الثقة المطمئنة بها...). (تعلق نظرها هناك طويلا دون أدنى كلمة...) (عندئذ قمت وتركت لها الطاولة... وإذا بها تقفز بكل هدوء وثقة من خبر الحياة وعرف أسرارها..) ص9 إن طريقة تفاعل القاصة مع مفردات الطبيعة الجامدة والحية يتكئ على تجربة حياة تتخذ منها شخوصا تحاورها وتستنطق ما لم تستطع نطقه دون أن تنتظر منها الإفصاح عن مكنوناتها وقد تركت الساردة تسألها وتجيب عنها مثل تحاورها مع القطة في ذات قصة: «ألا توافقيني بأن الحياة تبدو أكثر تشبثا بمن يركلها بقدمه... لم ترد.. فقط نظرت إلي بسكينة» ص7 إن الجدار في النص يشكل حالة سلبية في ذات الشخصية/ الساردة فقد يمثل حالة الدعم والسند للإنسان فقد يكون عازلا وقد يمثل الحماية والنجاة وقد يخفي الحقيقة أو الوهم فاصل بين الإنسان وبعض الأفكار والإنسان هو الذي يصنع الجدار ليحول بينه وبين الحقيقة أو العزلة والجدار قد يقف بين الإنسان وخطوات يتخذها.. جاءت أحداث القصة متماسكة بدقة، ومقننة بعناية وحرفية، ومحكمة الأجزاء تتميز بتسلسلها المنطقيّ وترابطها العضوي ارتباط الجلد بالعظم. - وضعية البداية (الاستهلال): يحمل تحولا في تبادل الأمكنة بين الشخصية والقطة «كانت تقف جانب الجدار....» « والنهاية «.. وأنا من يجب أن أقف بجانب الجدار» ص9 وهو استهلال ديناميّ، حيث لم تؤثث الكاتبة الفضاء للقصة، كما أنها لم تصف الشخصيات بدقة، وهو استهلال متوازن، أدى وظيفة تكمن في جعل القارئ يقبل عالم القصة، ويتجلى أثره الجمالي في تحديد أفق الانتظار. ممكن ينطبق على هذه القصة قصة المفاجأة نسبة للقفلة غير المنتظرة، التي تحمل مفاجأة غير متوقعة، ولربما لا تخطر على بال المتلقي، فتغير كل استنتاجاته، بل تجعله يعيد القراءة، ويربط بين جمل القصة، ودلالة القفلة المفاجئة، وهذا النوع يظهر كثيرا في (ق ق ج) لما يخلقه من تنشيط ذهني، وتنبيه فكري، ومتعة قرائية. تتمظهر وظيفة الخطاطة السردية في جعل المحكي قابلا للفهم، أمّا أثرها الجمالي فيكمن في الإيهام بواقعية الأحداث وهذه براعة إبداعية لا يقدر عليها إلا المبدع المتمكن. فالكاتبة فكرت كثيرا في نصها قبل أن تكتبه، ويتجلى ذلك من خلال النمو الذي عرفته القصة، إذ يبدو نموا مفكرا فيه، يسعى إلى بلوغ هدف محدد، وقد كانت النهاية الجميلة كاشفة لهذا العمل المفكر فيه في فعل القص، إذ اكتسبت القصة بفضل ذلك خاصية البناء الدائري. تدعو القاصة الطبيعة أن تشكل منها «الأنا» الإبداعية.. قالت: سرت بين المدينة البحر وتحت القمر، لوحدي لا نوارس أناجيها.. لا أدري أين تذهب النوارس....» ص59 تتابع القاصة منيرة علاقتها بالطيور, العصافير والنوارس تحديدا وهي من الكائنات الحية الجميلة في شكلها تضفي للطبيعة جمالا مميزا وتلازم العلاقة بين الإنسان والكائنات خصوصا الطيور والحشرات اعتاد الإنسان التعامل معها في بيئته من منطلق ديني وعاطفي وتأملي فقد يا أخذ منها ما لم يستطع أخذه من أخيه الإنسان والطير كما نعرف أول معلم لبني آدم منذ قصة هابيل وقابيل والغراب.. تكررت مفردة الطيور في معظم قصص المجموعة في قصة (علمتني الطيور).. الساردة اعتادت وضع صحن ماء وبعض البذور على حافة نافذتها (للطيور المتعبة والمارة من هنا). ص41 كانت طيور النافذة تشكل للشخصية متعة وسعادة تراقب حركتها وسلوكها مع ما حولها خارج النافذة بحرية تامة بينما هي داخل النافذة كانت الطيور تلتقط ما وضعته لها وتنظر إلى السماء وتشحذ مناقيرها على حديد النافذة كانت الطيور تتابع المارة في الشارع وتنظر إلى أغصان الأشجار عندما تحركها الريح (لكنها أبدا لا تنظر لمن يقف خلف النافذة. لم تكن تلتفت خلفها). (حتى عندما تطير.. لا تحب الطيور إلقاء نظرة أخيرة) تحاول الساردة تبرير موقف الطيور في عدم التفاتها إلى الخلف. وفي قصة كينونة يحضر النورس والسمكة بصفتهما المفردة تضرب على فكرة الحرية والانعتاق والانطلاق دون حدود على وجدان الشخصية «لو كنت طائر نورس لطرت وطرت لأقصى سماء... ولو كنت سمكة لعمت وغصت إلى أقصى محيط...» ص15، إلى آخر الأمنيات المفتوحة الشخصية تعيقها كثير من العقبات ولم يتح أمامها سوى إطلاق العنان للأمنيات المستحيلة وليس المسألة في تحققها المهم أن شرحت مكنوناتها راجية أن تنعتق منها يوما ما. وفي قصة (وحدة) نلتقي مفردة الطيور والبحر.... دلاليا توحي الطيور بالفرح والسرور، أما البحر فيرمز إلى الخير الكثير والعطاء، كما يدل العنوان على أنّ شخصية القصة مأزومة بالوحدة المطلقة وأن سير الحدث سيجري في إطار تعيس. فإلى أي حد يعكس العنوان مضمون النص؟ انطلاقا من دلالة العنوان وبعض الألفاظ والعبارات السردية، من قبيل «نهاية الأسبوع والخبز المجفف، البحر النوارس، وحيدة. تتطرق القاصة إلى معاناة امرأة مع الوحدة دفعتها تلك الوحدة إلى فعل أمر تبدد به وحدتها فترمي الخبز لطيور النورس وتتأمل البحر ولاحظت المرأة أن النوارس لم تعد ترتاد البحر هجرته وأصبحت تفضل مكب النفايات؛ نظرا لاكتظاظ المكبات بأنواع النعم وهي الفكرة التي راهنت عليها القاصة من توظيف كائن النورس والبحر. طرحت الكاتبة في قصتها هاته الفكرة ذات الطابع الإنساني الواقعي، والقصة تتعالق مع قصة قصيرة أخرى للقاص المغربي (محمد إبراهيم بوعلو) بعنوان (طيور البحر)(4). يتطرق القاص (بو علو) في قصته إلى خروج امرأة أرملة لبيع الخبز على قنطرة تقع فوق وادٍ، فتفادت النظر إلى المياه خشية ما يثيره منظرها داخلها، لكنها رغم ذلك تذكّرت المأساة التي حلت بها، حيث أخذت الفيضانات كل ما تملك فأحالتها وحيدة حزينة، وبينما هي تتأمل المياه تحتها في شرود لفت انتباهها طفل صغير يرمي بخبز إلى طيور البحر، لكن حالما نفدَ منه انفضّت من حوله، فظلّ مكتئبا، فأثّر فيها مشهد الطفل الوحيد، الذي يشبه حالتها تماما حينما فقدت عائلتها، فقررت مساعدته وإرجاع البهجة إلى وجهه، فأخذا يطعمان الطيور بكل الخبز الذي كان معها، والذي آثرته على نفسها. قصة (وحدة) لم تصل إلى مستوى قصة (طيور البحر) فقط لامستها عن بعد ففي الثانية شخصيات نجحت في التفاعل بينها، كما وظف القاص تقانة الاسترجاع لكسب القصة بعدا دلاليا كشف عن سر المعاناة بينما قصت (وحدة) كان يفترض من القاصة التلميح بتقنية أخرى. انسجم الزمان والمكان في قصة (طيور البحر) وتفاعلا، فأثمرا الكشف عن نفسية الشخصية المأزومة، وكفاحها لأجل العيش. أدت الشخصية في قصة (وحدة) دورا مهما في تحريك الحدث وتطوّره، ونسج خيوطه والسير به إلى النهاية، تجعل المتلقي يتعاطف مع معاناتها وتحرّكاتها، ويمكن رصدُ شخصية القصة فيما يلي: شخصيات رئيسيّة: تجسدها المرأة الوحيدة، الحزينة، تنتظر نهاية الأسبوع بفارغ الصبر وهي الشخصية البطلة، إضافة إلى الطفل الصغير الذي لا يدرك الواقع، يطعم الطيور خبزا، بريء، سعيد قبل أن تتركه الطيور، ومكتئبة بعد أن تركت الطيور البحر وغادرت إلى مكب النفايات. وتبنّت الشخصية قيما خالصة حميدة مثّلتها في الحزن على إهدار النعم في النفايات، حيث أصبحت منطقة استقطاب استغنت بها عن التحليق حول البحر طلبا للرزق، كما تتبنّى الشخصية قيما كالصبر والرأفة بالطير وحب الخير والبحث عن أوجه أخرى لإدخال الابتهاج على النفس والاعتماد على مخارج أخرى لتبدبد همومها، وعدم اليأس والاستسلام. هناك رموز كثيرة في الطبيعة والكون وكل رمز له لغته الخاصة به. وليس مهما أن تكون اللغة صوتية، فقد تكون على شكل أنواع من العلاقات والروابط التي تنتظم علاقة الأشياء والموجودات بعضها ببعض. من نصوص المجموعة، مثل «كينونة»، «بالأمس»، «على النافذة»، «اختزال»، «علمتني الطيور»، نلمس انعتاقاً ورفضاً للاستسلام، وسعيا للحرية، حضرت الحرية في المجموعة القصصية معظم النصوص من قناعة راسخة في ذاكرة القاصة تصرح بها في حواراتها الصحفية وفي إبداعها فتقول «أي نقص في منسوب الحرية هو نقص في الإنسانية، بمعنى أن شعورك بإنسانيتك لا يمكن أن يكون قليلاً أو كثيراً، فهي «أن تكون أو لا تكون». والشعور بالظلم هو ما يولد التوق للحرية، ولا يمكن الحديث عن الحرية من دون أن تحضر مقولة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: «كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟»، فالحرية تعني لي الكرامة، وأحسب مَنْ صادرها عني سلبني حقاً وهبني إيّاه الخالق سبحانه وتعالى. ففي قصة كينونة تقول: «لو كنت طائر نورس لطرت وطرت لأقصى سماء... تستطيع حملي إليها جناحاي.. لو كنت سمكة لعمت وغصت إلى أقصى محيط... لو كنت... لو.. « ص15. وتدخل في ذات الإطار قصة (على النافذة) تعرض القاصة محاولة انعتاق ورفض الاستسلام والقبض إن القاصة منيرة حاولت ترويض وتطويع قصصها من خلال تجربتها الذاتية وخبرتها الفكرية والذهنية للواقع ولصور الحياة بأشكالها المختلفة، فاستطاعت أن تلتقط عينات بشرية من الحياة وإطلاقها في الحياة مندمجة ومؤثرة، إذ لا يمكن للإبداع القصصي أن يتخلى عن الواقع في صناعة الفن السردي، ومن ثم اتجهت القاصة منيرة إلى ركوب تقنية اللعب التخييلي الذي ينقل الأحداث من الواقع من خلال التجربة الحية إلى فضاء الحكي للكشف عن ظواهر تتعلق بمختلف الفئات الاجتماعية ونماذجها.. على الحرية أي الشعور بالإنسانية فالحرية أن تكون أو لا تكون والشعور بالظلم يولد التشبث بالحرية، فالحرية هي الكرامة ومن يصادرها يسلب حق آخر وهبه خالقه. بالإضافة إلى ما سبق في قصة (وحدة) يظهر التعالق الأجناسي في قصة (ورد أقل) من المجموعة مرتكزا على الدلالة فوظفت القاصة التعالق بصفته تقانة قصصية قصيرة جدا خصوصا الشعر, تحديدا تجربة محمود درويش في ديوانه وقصيدته (ورد أقل) بصورة واضحة في القصة التقت القصة مع دلالة عنوان الديوان بتوظيف اللغة توظيفا يوصل الفكرة بأسرع الطرق وأوجزها وصفا أو تكثيفا عبر أشكال وبناءات أسلوبية وهيكلية خاصة. كما لا بد أن تلفت القاصة نظر المتلقي إلى أن الطيور ظهرت مرتين: مرة ضمن القصص وأخرى على الغلاف الخارجي.. يحتل العنوان أهميته في الفكر النقدي المعاصر باعتباره لبنة مهمة في المعمار النصي العام الذي يتشكل منه(5). وبما أن العنوان يدخل ضمن معمار النص، ويعد المفتاح الأول لدلالته فلا مناص للدارس من تناوله، وترجع أهمية العنوان أيضا إلى كونه «يختصر الكل، ويعطي اللمحة الدالة على النص المغلق، ويصبح نصًّا مفتوحا على التأويلات كافة» (6). القاصة لا تدفع المتلقي إلى النص ولا تورطه في الحماس للقضية، فقد حرصت على أن يشرع القارئ في التأمل وفقا لذلك، وممكن تذكرنا هذه القصة بقصيدة الجميلة والشاعر، وتلهف الجميلة إلى لقاء شاعرها أو العكس، إلا أنهما حرما من فرصة اللقاء لأن لو التقيا فإن القصيدة ستنتهي وتذوب في الحياة العادية(7). وفي هذه الحالة لا تكون القصيدة نصا يقرأ، إنما حياة تمارس، وخير ما يمثل ذلك في أدبنا العربي قصة (قيس وليلى) عدم اللقاء بينهما أكسب شعر قيس خلودا وقصة حلمهما في اللقاء تعاطفا وخلودا عبر العصور فمن حسن حظ جماهير الشعر أنهما لم يتلقيا، لأنها المرأة الحلم التي يكتب الشاعر من أجلها قصائده. ولو حضر شاعر القاصة في قصتها (ورد أقل) ستكتشف القاصة زيف قصتها التي تكتبها وستعرف أن جمال القصة لا يعادل جمال شاعرها وأن من الأجمل أن تعاش القصة بدلا من أن تكتب. بدأ عالم الشخصية من العالم الخارجي للدخول في عالم الواقع، عالم المرأة، عالم الإثارة، عوالم ينشطها الخيال، التوجس، الانتظار والترقب.. أحداث القصة صامتة في معظمها قد نتخيلها أنها منفصلة عن الذات، لكنها صارخة ومدوية تحت سلطة الفعل والسلوك والحركات الصامتة، وكأن القاصة تجسد نوعاً من العلاقة المبنية على الفهم والإعجاب بالآخر، دون التصريح والبوح الصارخ. إنها فوضى عملت على تجسيدها الكاتبة على مستوى الفكر، العاطفة، الإحساس، الشعور والاهتمام. لكنه عمل على تنظيمها وترتيبها على مستوى التوحد والإعجاب ورفع الحرج الذي أدى إلى استحالة اللقاء/ الوهم المنتظر في آخر النص «لكنه مات دون أن نلتقي «ودون أن يعرف شيئا من هنا» ص11 لاحظت الباحثة ملمحا آخر في قصص المجموعة وهي أنها تمثل قصة الحالة أو ذات الحال ويقصد بها اهتمام الساردة بوضع أو حالة البطلة دون غيرها، إذ تكون هي الغاية، وبؤرة الاهتمام، وموضوع القصة، بداية وانتهاء، وقد بلغ هذا الصّنف من التّخييل أهمية كبرى في الّنّقد الحديث، حتّى أنّ بعض النّقاد يربط الهدف من القصّة بخلق إحساس بالحالة لا قول المعنى. وقصّة الحالة اعتمدتها مجموعة (الطيور لا تلتفت خلفها) على نحو في قصة (كلام الآباء) «لقد سكنت روحي أجسادا كثيرة... وعشت معها أزمنة مختلفة. أشعر بالطفو فلا تجذبني أرض» ص13 الخاتمة وعلى كل حال -وكما أشرنا سابقا- إن القاصة منيرة الأزيمع استطاعت من خلال هذه المجموعة أن تعرض قصصا قصيرة جدا، بلمسات فنية عالية تحرص على مقومات هذا الفن، من حيث التكثيف اللغوي، والحذف والإضمار، والتلميح والإيماء والإشارة.. بعيدا عن الاتجاه التقريري، ورغبة في كسر أفق التلقي، واختراق النسق المعتاد، وانتهاك المألوف الممل من الكتابة التقليدية، وخلق إمكانات ومسارات لغوية مختلفة... الأمر الذي ينبئ بعطاء متنوع باذخ. ... ... ... الهوامش: - مجلة فكر الثقافية/ الإلكترونية/ نادية هناوي سعدون تاريخ النشر 11/5/1 2017 2- عبدالحق بلعابد، عتبات (جيرار جينيت من النص إلى المناص)، ص72 3- محمد إبراهيم بوعلو: السّقف، دار النّشر المغربية- الدّار البيضاء، ط2- 1975- ص:109 وما بعدها. 4- قراءة سيميائية للعتبات النصية في المجموعة القصصية: «الأرض الجريحة» ل: «صورية إبراهيم مروشي، سعيدة بشار..? بتاريخ 5/5/2014. 5- عبدالرزاق بلال، مدخل إلى عتبات النص (دراسة في مقدمات النقد العربي القديم)، ص22. 6- محمد الصالح خرفي، بين ضفتين (دراسات نقدية)، اتحاد الكتّاب الجزائريين، الجزائر، د.ط، 2005، ص149. 7- الشاعر والجميلة صحيفة (الحياة) علي الشدوي، الثلاثاء 16 فبراير 2010. ** **