للأفكار الخلاقة، مكانةٌ تليقُ بها، في المجتمعات التي تؤمنُ بدور المفكّرين (وقليلٌ ما هي) وربما أتت بعض الأفكار في غير وقتها، أو ربما طُرحِت بأسلوب يُثير الريبة حولها ويفقدها حُسن الظنّ، فجنت على نفسها، إلا أنّ خلل الفكرة، أو ضعفها، أو تقدميتها لايُبرّر مناصبة المفكرين العِداء. بالطبع لأي نخبة مثقفة دور في صياغة وجدان الإنسان، إلا أن الأمم بطبيعتها، وبحكم جغرافيتها وتاريخها لا تُسلِم زمام قيادها للأفكار بمرونة، كون لديها من الموروث والعادات والتجارب والرموز الاعتبارية، ما يدفعها للحفاظ على ما تراه من الثوابت، وتحذر من المُتغيّرات. وللبيئة العربية، وافر حظ من أفكار عرقلت مسيرها (التقليدية) من جهة، والتخوين من جهة أخرى، ولطالما نالت السهام الطائشة من كيان الفكر، حد الإدماء، ما دفع المفكرين للانزواء، واستيداع الأفكار الأمينين من تلاميذهم ومريديهم، فالنقمة أحياناً تكونُ على الشخص لا على النص. وبما أن بعض الخطابات الاحتكارية خشيت نهوض خطاب الوعي والتنوير، فإنها لم تدعه ينمو، ولم يتسع صدرها، لمن يقاسمها منصات التواصل مع الأطياف المجتمعية، ولم تتقبل فكرة التعبير عن الرأي المخالف والمختلف، باعتبارها ترى في مشروعها (وصاية) وتعدّ وعظها (فكراً) وبما أن منهجية الأدلجة والتدجين انتحاريتان اعتمدوا خلط الأوراق والارتقاء إلى الوعيد والتهديد والاستقواء بالعُنف وبالسلطة. ولا ريب أن ما شهدته بلادنا في عشرة أعوام من اعتماد مصفوفات قانونية، وتشريعات حازمة حفظت وضبطت (السِّلم المجتمعي) فاختفى صراع الأدوار، الذي كانت تمثله تيارات، وتلعبه توجهات تغذيتها من جهات داخلية وخارجية، وتجاوزنا بفطنة مليكنا، وولي عهده نزعات ونزاعات، كان يمكن أن تشظينا، وتحيلنا إلى مكونات عدائية شأن بلدان لم يبقَ لها من توصيف (دولة) إلا اسمها. وبرغم ما تفرضه التحولات من ضرورة طي صفحة الماضي، إلا أنه ما يزال البعض مُرتهناً لمرحلة عجّت وضجّت وثجّت بحدّة أطروحاتها ومواقفها حد المنازلة اللفظية واليدوية على الفضائيات، ومنابر المساجد والفعاليات وصفحات الملاحق، وليس افتئاتاً لو قُلنا (دعوها فإنها مُربكة). ولن أعود للوراء راثياً ولا متباكٍ ولا نادب حظّ؛ لأن التقهقر للخلف ردّة ثقافية، وتخلّف عن مجاراة ركب إصلاحات وطني، إلا أنّ المُنصِف، لا يُنكِر ولا يتنكّر أن للأيديولوجيا والأهواء دورها فيما حدث، فيما طغى وبغى تنازع وتقاطع المصالح، وتجلت مظاهره في حشد متعاطفين وأتباع بلا عدد، وراء رافعي ألوية الصراعات، والخوض مع الخائضين. وأي طرح موضوعي في مراجعته العقلانية؛ بنور من وحي رؤيتنا الوطنية، سيُقرّ بأنّ تلك الحقبة استهلكت وقتاً وجهداً ومشاعر، وأحدثت فجوات بين أبناء وطن سعودي واحد، وخلقت حالة عدائية، تتغيا إلغاء أطراف لصالح طرف، لا لشيء، عدا التشفّي، وكسب ولاء المجتمع لصفّ من يرى أهليته لتسيّد المشهد وإدارته، ( ولعب دور البطولة). اليوم تتجلى بيننا صورة الدولة الوطنية، والمجتمع المدني بنصاعة، ودون ضبابية، ما أتاح مساحة حُريّة غير مسبوقة، جديرةٌ باستثمارها لصالح الأجيال، وذلك بتعزيز معاني الانتماء، لوطنٍ أخرجنا من الظلمات إلى النور، وجدّد فينا أملاً كاد أن يضمحل ويتلاشى، ولا ريب أن الولاء لقيادة ارتضاها المواطنون والمواطنات وبايعوها، جزء من مشروع فكر البناء الحضاري للوطن، كون الاستقرار، والتعايش، يحيي الأفكار ولا يئدها، شرط ألا تجمح. ومن حكمة الفكر، أخذ (الاختصاص) في الاعتبار، ووضعه في الحسبان فلا يُدخل نفسه فيما هو اختصاص الدولة، فهناك جانب تشريعي، يضطلع به سماحة المُفتي، وهيئة كبار العلماء، والديوان الملكي، ومجلس الوزراء، والشورى، وليس من المصلحة الإيغال فيما مرجعيته لهذه الجهات الاعتبارية، إلا ما يمكن قبوله من خلال القنوات التفاعلية. ومن العدل، الاستفادة من أخطاء الأمس، إلا أنه من الفضل التسامي على جراح الماضي، واعتلالاته، وتوظيف ما يكفله النظام من حق التعبير عن الآراء، في إرساء قِيَم المواطنة، والخير، والتعايش، ورفد توجه وطننا التنموي، بتماسك جبهتنا الداخلية، ورفض كل ما يبذر أو يُبطن الشرّ لمجتمع من حقه أن يحيا شأن بقيّة الشعوب السويّة. تلويحة: الأفكارُ الجديرةُ بالحياة؛ لا تموت، ولا تُوأد.