عادة ما ينتشر الفنان العربي من أولئك الذين وهبهم الله ملكة الصوت الجميل أو براعة التلحين أو كليهما معاً، محققاً الجماهيرية والأمجاد والتحليق بعيداً في فضاءات الإبداع والشهرة والأضواء، ثم يجور عليه الزمن، وتقل أعماله بسبب المرض والعجز، فتختفي صوره ويخفت صوته ويصبح نسياً منسياً. وهذا ما حدث تحديداً للفنان السعودي المبدع المرحوم «عبدالقادر أحمد حلواني»، الذي كان ذات يوم صاحب مدرسة مستقلة في الغناء والتلحين، ونجماً متألقاً في برامج التلفزيون السعودي الطربية، وقائداً لأوركسترا الحرس الملكي، قبل أن يداهمه المرض، ما اضطره إلى الابتعاد خلال السنوات الثلاثين أو الأربعين الماضية عن الساحة الفنية، ليغدو من الأسماء التي طواها النسيان إلى درجة أن الأجيال الجديدة لا تعرف شيئاً عن شخصه أو عن إبداعاته الموسيقية المتميزة أو عن رحلته الطويلة في دروب الفن الأصيل. ومن هنا ارتأينا أن نجدد ذكراه من خلال هذه المادة، مستندين في رواية سيرته على ما توفر من معلومات متفرقة منشورة في الصحافة السعودية أوفي الأدبيات الموسيقية العربية. تعرفت عليه صورة وصوتاً لأول مرة في أواخر ستينات القرن العشرين من خلال البرامج الموسيقية التي كانت تبث من محطة تلفزيون الدمام الحكومي، بُعيد تدشين المحطة رسمياً في عام 1969، فتعلقت بأغانيه وألحانه التي وجدت فيها نفساً مصرياً صرفاً على عكس ما كان يقدمه مجايلوه من الفنانين السعوديين، إلى درجة أني اعتقدت وقتها أنه فنان سعودي من أصول مصرية، قبل أن أكتشف لاحقاً أسباب اختلاف ألحانه وموسيقاه عن السائد والمألوف. وُلد عبدالقادر أحمد حلواني بمدينة جدة سنة 1933، ابناً لأسرة حجازية معروفة من التجار. في صغره اهتم بمختلف أنواع الفنون، ولاسيما الموسيقى والسينما، فكان يشاهد أفلام السينما المصرية ويستمع إلى الأغاني والألحان المصرية بأصوات كبار نجومها، فتعلق بألحان الموسيقار رياض السنباطي وصوت الموسيقار محمد عبدالوهاب، وتمكّن من إجادة اللهجة المصرية كأحد أبنائها. وقد تعزز ذلك بذهابه إلى القاهرة لدراسة الموسيقى أكاديمياً في معهد فؤاد الأول الملكي للموسيقى (معهد الموسيقى العربية حالياً) الذي تخرّج منه عباقرة الغناء والتلحين في مصر من أمثال رياض السنباطي وكارم محمود ومحمد فوزي وزكريا أحمد وفريد الأطرش، حيث كان في سنوات دراسته هناك معروفاً بعذوبة صوته ومتميزاً في انتقاء الجمل الموسيقية. ممثل في مصر وتشاء الأقدار أن يكون وجوده في مصر وإجادته اللهجة المصرية سبباً في دخوله مجال التمثيل بمحض الصدفة، ليصبح أول ممثل في تاريخ وطنه السعودي يؤدي دوراً صغيراً في أحد الأفلام المصرية القديمة. وملخص القصة كما أوردها عبدالرحمن الناصر في مقال بصحيفة «الرياض» (18/4/201).. قال حلواني: كنا ذات يوم نقوم بزيارة للسلام على من كان يتولى أمر رعايتنا في مصر، فوجدنا عنده ثلة من المخرجين والممثلين الذين تحدثت معهم باللهجة المصرية، فطلب مني أحدهم أن أعمل مشهداً تمثيلياً أضرب فيه أحد الأشخاص وأهرب، فعملت التجربة ونجحت، وإذا به يطلبني للتصوير داخل إحدى الحارات الشعبية القاهرية دون أن يعلم أحد أني سعودي غير مخرج الفيلم. تخرّج صاحبنا من معهده المصري فكتب اسمه في تاريخ المملكة العربية السعودية الفني كواحد من أوائل الموسيقيين المحترفين الذين درسوا الموسيقى أكاديمياً، فامتلكوا ناصية قواعده ومقاماته وإيقاعاته ونوتاته وباتوا قادرين على رسم الصور واللوحات الموسيقية. ناهيك عن أنه الفنان السعودي الأول الذي أجاد العزف على آلة موسيقية غريبة لم تكن معروفة حينها في بلاده هي آلة القنبوس الوترية اليمنية ذات الأصل التركي، إلى جانب إجادته العزف على آلة العود التي عشقها ولازمته طوال حياته منذ أن اقتنى إحداها في مصر. طارق عبدالحكيم ترك حلواني مسقط رأسه ومرابع نشأته الأولى في جدة وانتقل إلى العاصمة الرياض شاباً يافعاً برفقة قريبه وزميله الموسيقار طارق عبدالحكيم الذي درس الموسيقى مثله في القاهرة وبزغ نجمه من خلال قيادته فرقة موسيقى الجيش العربي السعودي أولاً ثم بسبب تقديم ألحانه لكبار المطربين المحليين وبعض المطربين العرب منذ مطلع الخمسينات الميلادية. وفي هذا السياق، أخبرنا حلواني أن طارق عبدالحكيم هو من أمّن له غرفة في أطراف الرياض ليقيم بها بُعيد وصوله إلى العاصمة من جدة ليعمل في مدارس الموسيقى التابعة للقوات المسلحة ويوظف علمه في تأسيس جيل جديد من الموسيقيين الشباب. فقاده عمله في مدارس الجيش إلى الحرس الملكي حيث أصبح قائداً للأوركسترا فيه. وهكذا عمل الرجل إلى جانب طارق عبدالحكيم، ممارساً عشقه للموسيقى والعزف مع عازف القانون حسين عشي والفنان عودة سعيد وغيرهما في مدارس الجيش، فتخرّج على يده أفضل عازف سعودي للكمان وهو «سعد خضرسعدون»، قبل أن يتحول الأخير إلى الدراما ويشتهر باسم «فرج الله»، وكذلك الفنان حمدي سعد والملحن سمير مبروك والمطرب سعد محمد اليحيى الشهير ب«شادي الرياض». بدأ صوته وموسيقاه في الانتشار قبيل منتصف ستينات القرن الماضي حينما افتُتحت إذاعة الرياض الحكومية وتربعت الأغنية السعودية على برامجها وصارت قبلة للفنانين المحليين لتسجيل أعمالهم، ولأن حلواني كان مؤهلاً أكاديمياً فقد استعانت به الإذاعة آنذاك في عملية كتابة النوتة الموسيقية لفرقتها. ثم ترسّخ انتشاره بعد أن عرفه الجمهور صوتاً وصورة من خلال مسرح الإذاعة والتلفزيون الذي كان يقدم سهرات غنائية متلفزة لنجوم الفن والطرب والهواة على حد سواء. فرقة موسيقى الشرطة وفي فترة لاحقة من مسيرته الفنية الطويلة المكتنزة بالتجارب والنجاحات، وتحديداً في بداية سبعينات القرن العشرين، التحق بفرقة موسيقى الشرطة والأمن العام وعُين مديراً للشؤون الفنية بمعهد الأمن العام بالرياض، قبل أن يُكلف في عام 1975 هو وزميله الفنان طارق عبدالحكيم من قبل الرئيس العام لرعاية الشباب والرياضة آنذاك الأمير فيصل بن فهد بن عبدالعزيز (رحمه الله) بإدارة دائرة الفنون التابعة لرعاية الشباب، من أجل توثيق وإبراز الفنون الشعبية والتراثية وتأسيس فرقها الخاصة لتكون سفيرة للوطن في المحافل العربية والإقليمية والعالمية. نجح حلواني في ما أُوكل إليه بمشاركة زميله طارق عبدالحكيم، بل ساهم من موقعه الجديد، وبفضل علمه وتجاربه وشغفه بالفن، في نقل تجربة بلاده الموسيقية وألحانها وتراثها الشعبي وفنونها المتنوعة إلى أصقاع العالم فغنى في مختلف البلاد العربية والآسيوية والأوروبية مثل مصر والصين وإيطاليا، وليس أدل على ذلك من الاحتفاء به كثاني رجل متخصص في الموسيقى التقليدية عن قارة آسيا، وتعيينه من قبل منظمة الأممالمتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونيسكو) نائباً لرئيس اليونيسكو للفن الشعبي والموسيقى التقليدية. أناشيد وأعمال وطنية لحّن حلواني للإذاعة السعودية العديد من أناشيد الأطفال والأعمال الوطنية، ومنح ألحانه لبعض زملائه السعوديين والعرب مثل محمود الإدريسي وهيام يونس، وغنى بصوته من ألحانه أغانيَ جميلة تسكن في ذاكرة جيل الستينات والسبعينات ولا تبارحها، ومنها: «يا لوز يا مقشر» التي كتب كلماتها بنفسه وكانت سبباً في شهرته، و«الليالي خلتك تقسى علي» ذات المقدمة الموسيقية الرائعة، و«وش تبيني أسوي/ جارت الدنيا علينا» من ألحانه وكلمات عبدالرحمن الرشيد، و«يا شاغل بالي يا أسمر» من ألحانه وكلماته، و«لقايا معاه» من ألحانه وكلمات راشد الحمدان، و«غنوا يا عربان البيد» من كلمات أحمد فهمي وألحان محمد عفيفي. هذا ناهيك عن أغنية «جاي تقول لي» التي تعد من أروع أعمال حلواني لحناً وأداء. من كلمات هذه الأغنية التي كتبها فوزي إبراهيم: جاي تقول لي يا حبيبي/ قلبي أنا الغطان/ ولا قلبك مو داري بي/ والحب معك حرمان/ جاي يقول لي إنه تايب/ عمره ما يقسى عليّه/ لو ما انشغل بالحبايب/ شلته في قلبي وعينيّه/ جاي يذكرني بغرامه/ اللي خلا عيني تسهر/ توبه.. توبه لو أصدق كلامه/ اللي.. اللي عن دربي تغيَر/ جاي يقول لي.. جاي يقولي/ يا حبيبي.. أنا الغلطان/ جاي يقول لي بكره أجمل/ إنسى ماضينا اللي فات/ ياللي قلبك ما تبدل/ كيف أنسى الذكريات/ جايّ يذكرني بغرامه.. إلى ما سبق، زار الكويت في عام 1974 حينما كانت الكويت معقلاً للفنون والمواهب وقبلة للشهرة والانتشار في أرجاء الجزيرة العربية والخليج، فوجد الحفاوة والتقدير من زملائه الفنانين والملحنين الكويتيين ومن مسؤولي الإعلام، وقام بتسجيل وتصوير عدد من أغانيه لصالح التلفزيون الكويتي. كما أحيا في العام التالي حفلاً كبيراً في القاهرة بمشاركة الفنانة فايزة أحمد، وحاز هناك على إعجاب الجمهور بسبب تأثر وطغيان اللون المصري على أغانيه وألحانه. وفي عام 1979 سافر إلى طرابس الغرب لتمثيل السعودية في مؤتمر المجمع العربي للموسيقى الذي تشرف عليه جامعة الدول العربية، وفي عام 1980 زار المملكة الأردنية الهاشمية التي سجل فيها ستّاً من أغانيه لصالح التلفزيون الأردني. «موت فنان طواه النسيان» من جهة أخرى، وطبقاً لما كتبه عنه سعود بن عبدالمجيد في صحيفة «الوطن» السعودية (4/2/2021)، امتاز حلواني عن أقرانه باهتمامه بموسيقى الشعوب والأمم غير العربية فاطلع على موسيقى شرق آسيا وعلى الموسيقى الغربية، الأمر الذي ساعده في مزج الجُمل اللحنية الشرقية والغربية، وإظهارها في مقطوعات وأنغام تسحر الأسماع والألباب. وربما لهذا السبب، لم يجد الرئيس العام لرعاية الشباب الأمير فيصل بن فهد في عام 1982 شخصية فنية سعودية أفضل من حلواني لتمثيل قارة آسيا في المنتدى الذي عُقد في العاصمة البلجيكية بروكسل حول الموسيقى والفن الشعبي. ومما لا شك فيه أنه استفاد كثيراً من وجوده في ذلك التجمع العالمي بدليل أنه أقدم في العام التالي (1983) على إعداد تسجيلات موسيقية مزج فيها مقطوعاته الموسيقية الخاصة بأعمال موسيقية غربية من أجل مواكبة التطورات اللحنية العالمية. وعبدالقادر حلواني، الذي يعتبر أول فنان سعودي يحصل على عضوية جمعية المؤلفين والملحنين الموسيقيين المحترفين في كل من القاهرة وباريس، عانى لأعوام طويلة من الأمراض والآلام التي تفاقمت مع جلسات غسيل الكلى، ليودع دنيانا (رحمه الله) عن عمر ناهز الثمانين عاماً في الرابع من أبريل سنة 2013. وكان آخر ظهور تلفزيوني له مطلع الثمانينات في برنامج «تحت الأضواء» مع المذيع جاسم العثمان. وبعد وفاته كتب الأديب عبدالله بن بخيت بحسرة في جريدة الرياض (25/12/2018) تحت عنوان «موت فنان طواه النسيان»، قائلاً «وصلني على الواتساب فيديو بالأسود والأبيض للفنان السعودي عبدالقادر حلواني، قادني الحنين إلى تذكر الطفولة ومطلع المراهقة حينما كان عبدالقادر حلواني يملأ شاشة التلفزيون السعودي. من باب الفضول اتجهت إلى غوغل وسألت عن أخباره، فوجدت خبراً صغيراً منشوراً في جريدتنا هذه يعلن موته البسيط والمتواضع دون أن يحفل الخبر ولو بشيء عن تاريخ الراحل، اختفاؤه في السنوات العشرين وربما الثلاثين أسهم في انطوائه في ركن صغير من صحيفة كبيرة».