حينما هاجر والده فجأة للعراق تاركاً خلفه صبيين وابنة مع أمهم، اضطر وهو في التاسعة من عمره للعمل بائعاً للخضار في أسواق الطائف، كما عمل محاسباً لأحد التجار براتب 60 ريالاً وكان راتباً جيداً في ذلك الوقت، إلا أن «نوتة» القدر كتبت له «لحناً» مختلفاً، وذلك حينما التحق بالجيش السعودي بنصيحة من أحد الضباط الذين كانوا من زبائنه حينما كان يبيع الخضار، لتبدأ قصة ملهمة لهذا ال»طارق» الجديد لعالم الفن والموسيقى والغناء، ليصبح بائع الخضار عميداً للأغنية السعودية. يُعتبر الموسيقار طارق عبدالحكيم، أحد أهم أعمدة الفن السعودي، وأول فنان عربي والسادس عالمياً الذي يحصل على جائزة اليونسكو الدولية للموسيقى من المنظمة العالمية للمجلس الدولي للموسيقى وذلك في العام 1981، وصاحب التوزيع الموسيقي المطور للنشيد الوطني السعودي، ورئيس المجمع العربي للموسيقى بجامعة الدول العربية لدورتين متتاليتين. ولد طارق عبدالحكيم في العام 1918 في المثناة وهي إحدى ضواحي مدينة الطائف، ودرس الابتدائية في مدرسة الطائف السعودية، لكنه اضطر لترك الدراسة والعمل في عدة مهن ووظائف لتوفير لقمة العيش لأسرته التي فقدت معيلها. التحق طارق عبدالحكيم بالجيش السعودي وتدرج في رتبه إلى أن ختم حياته برتبة «عميد» في سلاح المدفعية. في بداية خمسينات القرن الماضي، سافر في بعثة لمصر للدراسة بمعهد الموسيقى العربية، ليعود بعد ذلك للوطن، ويؤسس العديد من المعاهد والجمعيات والفرق الموسيقية، أهمها: الفرقة الموسيقية للجيش السعودي كأول فرقة موسيقية تعزف على النوتة، كما أسس متحف الموسيقى العسكري في الرياض ومتحف موسيقى الأمن العام، والجمعية العربية للفنون، إضافة للكثير من مساهماته وإبداعاته في الإذاعة والتلفزيون. وقد شكّلت مصر بالنسبة له، انطلاقة كبيرة في عالم الفن، وأتاحت له اللقاء بكبار الفنانين المصريين كمحمد عبدالوهاب وأم كلثوم ونجاة الصغيرة وكارم محمود وفايزة أحمد. كما استفاد أيضاً من إقامته في لبنان، حيث قدم الكثير من ألحانه لنجوم الغناء اللبناني كوديع الصافي وسميرة توفيق وهيام يونس. وتُعدّ تجربة طارق عبدالحكيم «عميد الفن السعودي» وهو اللقب الذي التصق به طيلة حياته، تجربة رائدة وثرية، فقد استطاع بذكائه وموهبته، أن يقترب كثيراً من ذائقة ومزاج المجتمع السعودي المحافظ ويجعله يتقبل الفن، خاصة وهو يُقدم فناً راقياً وممزوجاً بالموروث الشعبي. غنى وكتب ولحن العميد طارق عبدالحكيم الكثير من الأغاني السعودية التي أصبحت من كلاسيكيات الفن السعودي ومن أشهرها على الإطلاق أغنية «أبكي على ما جرا لي يا هلي»، كما تغنى بألحانه الكثير من نجوم الفن السعودي والعربي، كالفنان طلال مداح الذي غنى له «عاش من شانك» و»لك عرش وسط العين»، كما غنى له الفنان محمد عبده «لنا الله» و»لا تناظرني بعين» و»سكة التايهين». كما تغنى بألحانه الخالدة الكثير من مشاهير الغناء في العالم العربي، مثل: نجاح سلام التي غنت له تحفته الفنية «يا ريم وادي ثقيف» التي تُعدّ أول أغنية سعودية تُبث في الإذاعة المصرية، وغنت له نجاة الصغيرة «فين يا محبوبي فين» و»يا اللي في هواك هيمان»، وفايزة أحمد غنت له «أسمر عبر»، وغنت له هيام يونس «تعلّق قلبي طفلة عربية، ووديع الصافي الذي غنى له «لا وعينيك» والتي قال عنها: «اكتب يا تاريخ أني أغني من ألحان غيري». لقد استطاع الموسيقار طارق عبدالحكيم أن يُعرّف بالأغنية السعودية ويُثبتها في أذن المستمع العربي من المحيط إلى الخليج. وقد حاز العميد طارق عبدالحكيم على العديد من الجوائز والأوسمة والألقاب، أهمها جائزة الدولة التقديرية وهي ميدالية الاستحقاق من الدرجة الثانية، وغنى لهيئة الأممالمتحدة في قاعة همرشولد في العام 1986، وترأس المجمع العربي للموسيقى بجامعة الدول العربية من العام 1983 إلى 1997، ولكنه قبل وفاته بقليل وحينما سئل في الحفل التكريمي الذي أقيم له في صالون غازي الثقافي العربي في مصر عن أمنيته التي لم تتحقق خلال مسيرته الطويلة، أجاب بحسرة: «كنت أتمنى أن أحصل على وسام الملك عبدالعزيز من الدرجة الأولى». وفي 21 فبراير من العام 2012 وبعمر تجاوز ال90 عاماً وبعد معاناة مع مرض السرطان، رحل الموسيقار صاحب «العمادتين» في القاهرة ودُفن فيها، ولكن إرثه الكبير سيبقى في سجلات الخلود. إن قصة هذا الرمز الملهم، تستحق أن تُكتب في دفاتر الوطن، قصة بائع الخضار الذي أصبح أول موسيقار سعودي، وعميد الأغنية السعودية التي سافر بها إلى كل العالم. مذكرات ناصر بن جريد.. هل يكون إبراهيم خفاجي الملحن الخفي لمحمد عبده؟ د. عبدالعزيز خوجة يزور الفنان طارق عبدالحكيم في منزله صورة تجمع الشاعر إبراهيم خفاجي مع طارق عبدالحكيم وعبادي الجوهر والمونولوجست حسن دردير»مشقاص» والملحن عمر كدرس وعبدالمجيد عبدالله وجلال أبو زيد مع الراحل عبدالله محمد