في مطلع هذا العام أطلقت وزارة الشؤون الإسلامية «أدلة» لبناء وتطوير المساجد بالتعاون مع جائزة عبداللطيف الفوزان وبمشاركة اللجنة الوطنية لكود البناء السعودي. هذه الأدلة تعتبر الأولى على مستوى العالم، من حيث الشمولية، فقد بلغت 12 دليلا غطت الجوانب الإدارية والاجرائية والتشريعية والانشائية والتشغيلية كافة وغيرها.. كان السؤال المهم، قبل الخوض في مسألة تطوير "كود" لبناء المساجد، هو: لماذا نحتاج إلى هذا "الكود"؟ لقد لاحظت جائزة عبداللطيف الفوزان، منذ تأسيسها، أنه لا يوجد نظام واضح يعزز من جودة بناء المساجد، ليس فقط في المملكة بل وعلى مستوى العالم، كما أن المسجد الذي يعتبر أكثر المباني العامة انتشارا على مستوى العالم (4 ملايين مسجد منتشرة في العالم في الوقت الراهن) لا يحظى بأي اهتمام على خارطة العمارة والتنظيم العالمي، وهذا أمر مستغرب. لم توجه الجائزة اللوم للعالم الغربي الذي لم يعطِ عمارة المسجد حقها، فهو غير معني بذلك، لكن اللوم موجه لنا كعرب ومسلمين لأننا لم نعمل ولم نبذل الجهد الكافي لجعل المسجد أولوية معمارية وتقنية وتشريعية على مستوى العالم. على أن فكرة تطوير "كود" لبناء المساجد تعود للأمير سلطان بن سلمان (رئيس مجلس أمناء الجائزة) منذ عام 1997م، وهو الذي نبه المهتمين في الجائزة لهذه الثغرة وطالب بالعمل على تجسيرها. لقد تطورت فكرة "الكود" لسد هذه الثغرة، مع علمنا بأن أي "كود" يجب ألا يمس العملية الإبداعية التي ترتكز عليها العمارة ولا يجب أن تتقاطع معها إلا في الجوانب التنفيذية الإجرائية والتشريعية والتقنية التي تعزز من جودة "المسجد" كمكون عمراني صانع للابتكار. بدأت الفكرة من كون المسجد تاريخيا عمل كمختبر لتطوير علوم البناء في الحضارة الإسلامية، ولا يكاد نظام انشائي أو تكوين بصري/ جمالي أو حتى عناصر تقنية تشغيلية إلا وتطورت من خلال بناء المساجد وعمارتها على امتداد المساحة الجغرافية والزمنية التي شغلتها الدول الإسلامية حتى العصر الحديث الذي أحدث انقطاعا مفاجئا لكل تلك الحيوية الابتكارية والحرفية التي كانت تحتويها عمارة المساجد. الربط بين "الكود" وبين المختبر التاريخي الحيوي والإبداعي لعمارة المساجد كان يتطلب عملا أكثر من مجرد وضع مسودات تنظيمية يتم اعتمادها أثناء تنفيذ المساجد، فقد كان الهدف هو خلق آلية للتفكير مبنية على التفاعل بين "التصميم" كعملية ابتكارية وإبداعية وبين تطوير النظم التنفيذية (إنشائية وتشغيلية وتقنية)، أي أن مفهوم الابتكار يجب أن يمتد إلى النظم التقنية والانشائية كي تواكب الأفكار الجديدة لتي تحدثها العمارة باستمرار، وكما هو الحال تاريخيا عندما كان المسجد يخلق نظما إنشائية وجمالية وتشغيلية جديدة باستمرار. ويبدو أن هذا الهدف على وجه التحديد مسألة لا تتوقف عند مفهوم "الكود" التقليدي، الذي عادة ما ينظر له على أنه "تقنين" و"تشريع صارم" يطبق بحزم، وبالطبع الابتكار والإبداع لا يتعارض مع "الحزم" والتطبيق الصارم للنظام طالما أن هذا النظام لا يمس آلية التفكير الإبداعي ولا يتدخل في كيفية عملها. في مطلع هذا العام (1 يناير) أطلقت وزارة الشؤون الإسلامية "أدلة" لبناء وتطوير المساجد بالتعاون مع جائزة عبداللطيف الفوزان وبمشاركة اللجنة الوطنية لكود البناء السعودي. هذه الأدلة تعتبر الأولى على مستوى العالم، من حيث الشمولية، فقد بلغت 12 دليلا غطت كافة الجوانب الإدارية والإجرائية والتشريعية والإنشائية والتشغيلية وغيرها، وهي الأولى عالميا من حيث اعتمادها ووجوب تطبيقها، أي أنها أصبحت ضمن نظام البناء المعتمد الذي لا يصرح للبناء دون تطبيقها واتباع اشتراطاتها، في السابق لم يخلُ الأمر من اجتهادات تقنينية مختلفة شملت تخطيط وعمارة المساجد، لكنها كانت اجتهادات غير شاملة وغير ملزمة في الترخيص للبناء ولا تحظى بإجراءات في المتابعة قبل وأثناء وبعد التنفيذ، كما هي الأدلة التي أطلقتها المملكة، كما أنها اجتهادات محدودة جدا لا يمكن اعتبارها عملا تنظيميا "عالميا" قادرا على أن يصنع ثقافة جديدة للعمارة المسجدية. معالي وزير الشؤون الإسلامية أشار للبعد العالمي، في كلمته الافتتاحية في حفل إطلاق الأدلة في مدينة الرياض وأكد أن المملكة بثقلها الديني، فهي قبلة المسلمين، تعمل والعالم الإسلامي يحذو حذوها، فعندما تعتمد أدلة لبناء وتطوير المساجد، فهذا يعني أن العالم الإسلامي والعالم بأسره سيحذو حذوها ولا بد لهذه الأدلة أن تشكل علامة فارقة في عمارة المساجد في المستقبل. وحتى تصبح هذه الأدلة ضمن الثقافة المهنية المحلية والعالمية، أعلن مؤسس جائزة عبداللطيف الفوزان عن تبني الجائز لبرنامج تدريبي مجاني على الأدلة، بإشراف وزارة الشؤون الإسلامية، يشمل جميع مناطق المملكة ويصحب هذا البرنامج برنامج بحثي عالمي لسد الثغرات التي قد تطرأ مع تطبيق الأدلة ولمواكبة التطورات التقنية الجديدة في المستقبل، الهدف من هذين البرنامجين هو جعل "الأدلة" مجالا حيويا لتطوير المساجد على مستوى العالم، فكما أن الجائز تعمل على إبراز وتعزيز أفضل الممارسات في عمارة المساجد على مستوى العالم، هي كذلك تعمل على بناء مجتمع مهني حيوي يصنع الابتكار من خلال عمل منظم ودقيق، والأدلة فرصة كبيرة لخلق هذا المجال الحيوي المنظم الذي يصنع ذاكرة مسجدية معاصرة متقاربة لكنه لا يخنق الإبداع المبنى على التعددية والنهايات المفتوحة. يجب أن أشير إلى أن الأمير سلطان بن سلمان، لم يتوقف في يوم عن الإيمان بفكرة "التنظيم" المبدع للمساجد، لذلك كان هو الراعي لحفل البدء في تطوير "الأدلة" قبل عدة سنوات في حفل أقيم في مسجد الظويهرة في حي البجيري في الدرعية، الإيمان بفكرة عظيمة يتطلب الصبر والمثابرة، والأمير سلطان لم يتوقف عن العمل بصمت وفي العلن لدعم المشاريع المهنية والثقافية الكبرى في المملكة.