في عصرنا التقني الحالي، وبالرغم من توفر كل وسائل التواصل، وكونها متاحة للجميع بكل سهولة، إلا الشائعات تتزايد، بل أصبحت سمة هذا العصر وتنتشر بسرعة غير مسبوقة، محدثة أضرارًا اجتماعية واقتصادية وحتى سياسية في المجتمعات. لذا، فإن مكافحة تلك الشائعات وإخمادها تُعد من التحديات الكبرى التي تواجهها الحكومات والمؤسسات الإعلامية في مختلف أنحاء العالم. الشائعات غالبًا ما تستهدف إثارة البلبلة وزرع الشكوك، سواء بين الأفراد أو المجموعات. والانتشار الواسع للمنصات الاجتماعية زاد من انتشارها بل وأصبحت بيئة خصبة لنشر المعلومات المغلوطة. واتذكر شخصيا شائعة انتشرت خلال جائحة كورونا حول وجود حظر تجوال كامل -قبيل الإعلان الرسمي على الحظر الكامل-، مما أدى إلى تهافت الناس على المتاجر لشراء السلع بشكل عشوائي، قبل أن تنفي الجهات الرسمية هذه المعلومات عبر وسائل الإعلام الرسمية بعدها بساعات. تلعب الهيئة العامة لتنظيم الإعلام دورًا محوريًا لإخماد تلك الشائعات، معتمدة على استراتيجيات متكاملة تجمع بين التوعية الاستباقية والتدخل السريع، حيث تعمل على مراقبة المحتوى الإعلامي وتقديم التوضيحات بشكل مستمر. على سبيل المثال، أطلقت وزارة الصحة السعودية مبادرة "صح" خلال جائحة كورونا، التي تمثل منصة إلكترونية تهدف إلى التحقق من صحة المعلومات المتداولة حول الفيروس ولقاحاته. هذه المبادرة نجحت في تقليل تأثير الشائعات المتعلقة بالصحة بنسبة 40 % وفقًا لتقارير رسمية. عالميًا، تنتهج دول مثل سنغافورةوألمانيا سياسات صارمة لمواجهة الشائعات. ففي سنغافورة، تم تفعيل قانون مكافحة الأخبار الزائفة والتلاعب على الإنترنت، الذي يمنح السلطات الحق في إجبار الشركات التكنولوجية على تصحيح أو إزالة المحتوى المغلوط. وبالمثل، أظهرت دراسة أجريت في ألمانيا أن حملة التوعية الإعلامية التي أطلقتها الحكومة بشأن الشائعات السياسية ساهمت في زيادة وعي المواطنين. التقنيات الحديثة أيضًا أصبحت أداة فعالة في محاربة الشائعات. في السعودية، تُستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليل المعلومات المتداولة على وسائل التواصل الاجتماعي، مما يساعد في التعرف على الشائعات في وقت مبكر. على سبيل المثال، أشار تقرير صادر عن مركز الإعلام الرقمي إلى أن تقنيات تحليل البيانات ساعدت في كشف أكثر من 5000 شائعة متداولة في عام 2023، مما أتاح للجهات المختصة التعامل معها بسرعة. الجمهور يلعب دورًا حاسمًا في هذه المعركة. التوعية المجتمعية تُعد من أبرز الأساليب لمكافحة الشائعات. وفقًا لدراسة أجرتها جامعة الملك سعود، أظهر 70 % من المشاركين أن التحقق من الأخبار قبل مشاركتها يمكن أن يقلل بشكل كبير من انتشار الشائعات. هذا يشير إلى أهمية تعزيز ثقافة التفكير النقدي لدى الأفراد، وهو ما تعمل عليه الجهات التعليمية والإعلامية في السعودية. الإعلام التقليدي أيضًا لا يزال له دوره في مواجهة الشائعات. القنوات التلفزيونية والصحف المطبوعة والمواقع الإخبارية الموثوقة تُعتبر مصادر يمكن الاعتماد عليها لتقديم المعلومات الصحيحة. على سبيل المثال، صحيفة "الرياض" قامت بنشر سلسلة مقالات تحليلية حول تأثير الشائعات على الاقتصاد، مما ساهم في توعية الجمهور بخطورة تداول الأخبار غير الموثوقة. التعاون الدولي أيضًا له دور بارز في التصدي للشائعات، خاصة مع طبيعة الإنترنت التي لا تعترف بالحدود الجغرافية. السعودية تُشارك في العديد من المبادرات الدولية لمكافحة الأخبار الزائفة، مثل عضويتها في مجموعة العشرين التي أطلقت مبادرات لتعزيز الشفافية المعلوماتية وحماية الجمهور من التضليل. رغم كل هذه الجهود، يظل التحدي الأكبر هو التوازن بين حرية التعبير ومكافحة الشائعات. لذا، فإن تطوير إطار عمل شامل يجمع بين الرقابة الحكيمة والتوعية المجتمعية يُعد الخطوة الأهم، وإخماد الشائعات ليس مجرد مسؤولية حكومية أو إعلامية، بل هو جهد جماعي يتطلب وعيًا مجتمعيًا وتقنيات متطورة وتعاونًا دوليًا. * مستشار ومختص بالإعلام الرقمي م. هاني بن إبراهيم الغفيلي