رابني كلّ الريبة - منذ اللحظات الأولى - تأخّر الرد الإسرائيلي حيال مغامرة «طوفان الأقصى» صبيحة يوم السبت 7 أكتوبر 2023م، حيث جاء رد الفعل الأول بعد ما يقرب من ست ساعات، نفّذت فيها كتائب عزّالدين القسّام (الجناح العسكري لحركة حماس) توغلها في عمق «غلاف غزة»، وذهبت أبعد منه قليلًا، بما وضع علامات استفهام كبيرة لا سبيل إلى فك طلاسمها إلا بالذهاب في أحد اتجاهين: • إما أنّ هناك بالفعل ثغرات كبيرة في منظومة قوات الاحتلال الدفاعية، وبخاصة «القبة الحديدية»، وأن «أسطورة» جيشها الذي لا يهزم مجرد «فزّاعة» اتكأت عليها لإشاعة نوع من الترهيب الزائف، الذي استطاعت «كتائب القسّام» أن تعرّيه بعملية «طوفان الأقصى»، في دقائق معدودة. • أو أن ما تمّ جرى تحت سمعها وبصرها ومراقبتها، وسمحت بحدوثه بهذه الطريقة الدراماتيكية، بما يتيح لها استثماره لاحقًا لغايات أبعد بكثير من حدود النظر القاصر، والمقتصر على الحدث في حدوده الضيقة، ومترتباته الآنية.. وإذا ما أخضعنا كلا الاحتمالين لعملية فحص دقيق، وموازنة تحت سطوة الترجيح والمفاضلة؛ فإنّ الاحتمال الثاني – فيما أرى - يبقى الأوفر رجحانًا، والأقرب للإيقان بحتميته، دون أي إسقاط لنظرية المؤامرة في ذلك؛ بل إن النتائج على أرض الواقع تفرض الذهاب في هذا الاتجاه. فمهما بلغ تقديرنا لقوة «كتائب القسّام»، والتكتيك النّوعي الذي اعتمدته في هذه العملية الجريئة، وسلّمنا جدلًا بضعف الرقابة في «غلاف غزة» في تلك الساعة المبكرة من صباح السبت؛ فإن تأخّر الرد الإسرائيلي لست ساعات، يبقى أمرًا محيّرًا، لا تفك طلاسمه إلا إذا ذهبنا مباشرة إلى الاحتمالية الأخرى، المفترضة علم سلطة الاحتلال الإسرائيلي بالعملية والتعاطي معها بمبدأ براغماتي بحت، تجلت مظاهره في هذه الشواهد: • لم تمضِ على عملية «طوفان الأقصى» سوى سويعات قليلة حتى شكّل الجانب الإسرائيلي خطابًا إعلاميًا بادعاءات لجرائم فظيعة بحق الأطفال والمدنيين والآمنين في دورهم، وعمليات اغتصاب وحرق ونهب للممتلكات، رمت بها أفراد الكتائب، لتجد النصرة السريعة من قبل الولاياتالمتحدة، وتبني الخطاب في عجالة مخلة، وتشكيل رأي عام غربي مناصر ل«حق إسرائيل في الرد»، بالطريقة التي تراها مناسبة. • تحرّك الولاياتالمتحدة السريع نحو تلبية الطلبات الإسرائيلية، وزيارة وزير خارجيتها وتجاوزه لكل الأعراف الدبلوماسية بالإعلان عن أن زيارته تأتي بوصفه يهوديًا قبل أن يكون وزيرًا لخارجية أمريكا. • تحريك حاملة الطائرات الأمريكية ووضعها رهن الإشارة، مسبوقة بدعم عسكري لا يتناسب مطلقًا مع مغامرة لا تخرج في سياقها عن المغامرات السابقة التي تعاملت معها إسرائيل دون الحاجة لكل هذا التحشيد، بما يرفع السؤال إلى سطح الاستفهام: لأي غاية هذا التحشيد المبالغ فيه؟ • لم تطالب أي دولة بعقد اجتماع عاجل أو طارئ للأمم المتحدة أو مجلس الأمن، بل باركت أغلب الدول الغربية القصف الإسرائيلي على غزة بهذه الصورة الوحشية المتنافية مع أي بعد إنساني. • رد الفعل الإسرائيلي تجاه مغامرة «طوفان الأقصى»، أقل ما يوصف به أنه «توحش» غير مسبوق، وعمل بربري غير متكافئ، عم كل سكّان «القطاع» دون استثناء، ولو أرادت إسرائيل الرد لأمكنها نسف منصات الكتائب مباشرة، وفي لحظة إطلاق أي رشقة من الصواريخ، تبعًا لما لديها من تقنيات عسكرية فائقة الدقة، ولكن عوضًا عن ذلك استهدفت البنية التحتية، والمستشفيات، والبنايات السكنية. • عدم اهتمام إسرائيل بأسراها، والتصريح بأنها ستقصف غزة بلا هوادة ولو كان ثمن ذلك ذهاب أسراها ضمن الضحايا، وهو مسلك يشي ب«تضحية» لأجل أمر أكبر من الأسرى، وأبعد من حتمية إنقاذهم من قبضة «حماس». • الإعلان عن قطع إمداد الكهرباء والمياه والتحذير من أي محاولة لتقديم المعونة أو التدخّل في الصراع، والمحصلة من ذلك جعل قطاع غزة مكانًا غير قابل للعيش، وفاقدًا لأساسيات الحياة. إن كلّ هذه المؤشرات مجتمعة، وغيرها، كانت تشير بوضوح إلى «أمر» يتجاوز مجرد «الرد» على مغامرة «طوفان الأقصى»، وترمي إلى أفق بعيد؛ كشف عنه الاحتلال بالدعوة إلى «تهجير» سكّان القطاع إلى صحراء سيناء، بما يعني بوضوح «التهام القطاع» وضمه إلى الخريطة الإسرائيلية، بما يحقق له جزءًا من حلم دولتها المتوهمة من الفرات إلى النيل.. فلو كان ثمن ذلك ادعاء الهزيمة لساعات، وبضعة أفراد في عداد المأسورين أو المفقودين، فلا أقل من ترك المساحة للمغامرين ليؤدوا أدوارًا مرسومة دون علمهم، وكأنهم بيادق في رقعة شطرنج، طالما أن الغاية «ابتلاع» القطاع، وبمباركة دولية تحت ذريعة «أمن إسرائيل».. أكاد أجزم أن ما جرى لا شبيه له إلا حادثة سقوط الأبراج الأمريكية في 11 سبتمبر، والتي ما زالت لغزًا، إجابته الحقيقية حبيسة في الأضابير، والصدور المطوية على الأسرار، وهي أحداث على محدودية فاعليها؛ ذهب أثرها إلى أبعد من ذلك بكثير، وخلّفت وضعًا جديدًا ما زلنا نعاني منه بمرارة وأسى. وعلى أي حال ستنتهي إليه هذه المجزرة الدائرة في «القطاع»؛ فإن وضعًا جديدًا سيترتب عليه، ولكن لن يكون الوضع كما كان سابقًا، وسيلقي ذلك بظلاله على الضفة الغربية، التي أخشى أن تُنزع عنها السلطة الرمزية، وتُجبر على وضع سيكون شبيهًا ب«عرب القدس».. والأيام حبلى، والله غالب على أمره.