حينما تكتب المرأة العربية عن المسكوت عنه، أو عن الأنثى، أو عما هو غير مباح، في نظر مجتمعاتنا، فهي تعطينا جملة من الأسرار التي لا يستطيع الرجل، في اعتقادي، استيعابها، وبالتالي فإننا نجد أنفسنا أمام نصوص تعكس توتّرات وأحلام الأنثى بكثير من الجماليات والصدق والتمكّن من الأحداث التي تتطرق إليها. وفي هذا المجال، صدرت حديثاً رواية تحت عنوان: «الأفق الأعلى» للكاتبة السعودية فاطمة عبدالحميد، عن منشورات ميسكلياني، وتقع في 200 صفحة، نصّها مشكّل، وكأنّ المبدعة تضع الحروف على النقاط، لكيلا تقرأ روايتها بصيغ وغايات غير التي رسمتها لعملها، الجريء، الذي تطرقت فيه إلى واقع الطفل سليمان، الذي زوّجته أمّه بنبيلة التي تكبره بعشر سنوات، وهو لم يتجاوز الثالثة عشرة من عمره. وكأنّ فعل الأم هذا يعكس انشغالاً لزواج الولد من زوجة تكون فيها مجموعة خصال ورسائل، الأم الحبيبة، الصديقة، الأخت. إنّها رواية تبدو في مظهرها الخارجي سهلة القراءة، لكن مضمون فصولها يتراوح بين الماضي والحاضر، بين حياة سليمان الطفل الذي يلعب مع رفاقه الأطفال ويلهو معهم غير عابئ بالحياة، وبين قرار الوالدة المستبدّ لمنعه من التمتّع، بشكل أو آخر، بطفولته. وينتج عن هذا الزواج تكوين أسرة من ثلاثة أولاد، يعيش حياة لم تكن لا زوجته مرتاحة لها، كونه غير قادر على تحمّل أعباء الزواج، وبالتالي، ولا هي راضية كل الرضا بها، فتعيش مجموعة فوارق وتساؤلات. ويمرّ الزمن دون التوفّق في جعل حد لهذا الزواج، حيث عاشت الزوجة موزّعة بين مطالب الأم، والأولاد، والسياق الاجتماعي الخانق. هذا ما تقدّمه المبدعة لنا، مشكّلة فصول روايتها بين الطرافة والعمق في آنٍ واحدٍ، وكأنّها تطلب، أو تنتظر منا، مساءلة أنفسنا ومساءلة العلاقة التي تجمعنا بالكائن الوحيد الذي ينبذه كلّ البشر ملك الموت.. تموت نبيلة بحادث وتترك سليمان وحده. اعتمد على زوجته في بداية الأمر في تدبير شؤون بيته، مع أولاده. «تغادره والدتُه، ثمّ زوجتُه، فلا يبقى منهما سوى ظلالهما التي تأمره بألّا ينسى باب الشرفة مفتوحاً،» (من الرواية) ولكنّه لا يأخذ عن طريق الجد وصاياهما، لأنّه بدأ يكتشف نفسه رويداً، رويداً، طالما هو موجود في بيته. وذات يوم نسى باب الشرفة مفتوحاً، ممّا سمح له بالتعرّف على جارته من خلال شرفتيهما، حيث بدأ في التقرّب منها، وفي تبادل الكلام معها في موضوع الطبخ، ليتحوّل هذا اللقاء إلى موعد يومي، وينقلب إلى الشعور بالذات الإنسانية التي لم تكن متوّجة فيه، ليجد الحُبّ على هيئة ظلٍّ لطيفٍ في الشرفة المقابلة. غير أنّ الموت، الذي وهب سليمان فرصةً جديدةً لبناء بيوت الكبريت الّتي ظلّ محروماً منها منذ صباه، هو الذي يروي لنا قصّته في هدمها الواحد تلو الآخر، من أفقه الأعلى، ساخراً من الإنسان ودأبه في حياةٍ هي في الحقيقة لعبٌ ولهو. «تكمن قيمة هذا العمل في احتفائه بالتفاصيل الإنسانيّة البسيطة، التفاصيل اليوميّة التي يعيشها الإنسان وتُشكّل ملامحه وإنسانيّته بعيداً عن المفاهيم الكُليّة، وليس الرّاوي فيه وهو الموت سوى كاميرا تنتقل بين الأمكنة لتنقل لنا ما يحدث كلّ يوم. فهل يحتاج القارئ حقّاً، إلى رنين القضايا الكُبرى أو قناع التاريخ؟ ألا يمكن فهم جانبٍ من الحياة بالتعرّف على رجلٍ وحيدٍ في شرفة، كلّما رحلت امرأةٌ من حياته أشرق؟». فعبر هذه العلاقة يكتشف سليمان نفسه من جديد، ويصبح لحياته معنى، رغم أنّ جارته كانت متزوجة، إلا أنّها، هي الأخرى، اكتشفت صدقه ووحدته ونبل مشاعره. كما نكتشف عبر هذه العلاقة ما آلت إليه حياة أولاده، واكتشافهم قصة والدهم مع جارته، وكأنّ الروائية تفعّل العلاقات الإنسانية المتشابكة لتطوّر الأحداث في أسرة سليمان، من جهة، وفي حاشية الجارة من جهة أخرى. وهي بذلك تكشف النفاق الاجتماعي، وترد للمرأة مكانتها ودورها، في أن تصبو إلى أفق أعلى يتماشى مع أحلامها في مجتمع يترصّد كل خطواتها، ليحدّ من حجم رغباتها وتطلعاتها في مواصلة حلمها للتصرف في مسار حياتها كما ترغب هي، ضاربة عرض الحائط تدخل الآخرين في عيشها.