في الدفقة الروائية للأصوات النسائية العربية الجديدة منذ أكثر من عقد، وفي كثير من النقد المتعلق بتلك الدفقة، تعالى الهجس بالخصوصية في اللغة والجنوسة ومقارعة الذكر والولادة والرضاعة والأمومة وعلاقة المرأة بالمرأة... وسوى ذلك مما تعنونه البطركية الأبوية منذ أخذت تسري في الدراسات النسوية. ولم يفت تلك الدفقة الروائية ونقدها ما عرفت البطركية خلال العقود الثلاثة المنصرمة من تطور... وها هي الدفقة الروائية العتيدة تتعزز برواية عفاف البطاينة"خارج الجسد"التي قدمت ثلاث نساء أو ثلاث حيوات في شخصيتها المحورية منى، لا تكاد واحدة تتلاشى حتى تنبعث الأخرى من رمادها. وإذا كانت هذه الرواية تنهض بفعل التذكّر، والسيرية تلوّح لها، فهي مضت باللعب إلى أفق أرحب وأشد تعقيداً، اعتماداً على تناوب السرد بضميري المتكلم والغائب بين الشخصيات من دون أي مائز، ومن دون الوقوع في التعمية أو الارتباك، وبالسلاسة التي تسم وصف المكان والجسد والحالة كما تسم الحوار، وبخاصة كل ما جاء بالعامية الأردنية. كانت منى كما تروي حرةً في طفولتها التي محت الذاكرة معظمها، حين كان الأب يعمل في الخليج. ولما تفتحت مراهقتها خسرت جسدها وإرادتها، فالأب العائد مدججاً بالمال خسر ماله وثنّى زوجته وتكاثر أبناؤه وبناته في القرية القبلية الأبوية. ومنى التي ضُبطت مع زميلها صادق، سينزل بها عقاب الأب بلا نهاية ولا رحمة، حتى تقايض السماح لها بالدراسة الجامعية بزواجها من محروس، وتشرع مقاومتها بالسفور:"تعاهدت مع نفسي ألاّ أنفذ أمراً إن لم يخدمها". وقدمت الرواية إزاء وحشية الأب وبذاءته، شخصية شقيقه سالم السجين السياسي السابق الذي يلجئ منى حيناً، وتغذيها مكتبته، وكذلك شخصية الطبيب الذي يحكم بعذرية منى، بينما تكمل الجدة صورة الأب، وفي الجامعة يكملها الأستاذ حسين الذي يقايض منى على النجاح بجسدها، وصنوه الأستاذ الذي يحاول الاعتداء على زميلتها إخلاص، وبقية ذكور العائلة والقرية. بل يبلغ الأمر أن تغدو الأم شبيهة بالأب. وعبر سرد هذه الذكريات تتوالى تحولات منى. فحين حكم الأب عليها بالعزل إثر فضيحة صادق، لجأت إلى الصلاة. وحين حُكِم عليها بالزواج من محروس، جعلته يقضي سنة في تبذير الذكورة والأنوثة حتى رضي الطلاق وخرج نصف فاقد لرجولته وكارهاً للزواج وللناس. لكن محروس سيصير صديقاً، بينما تتحدى منى ضرب أبيها، ويجعلها التحدي واللجوء ثانية إلى بيت العم سالم تكتشف أباها - كما يكتشفها - من جديد، وقد باتت تدرك أنها لا تريد أن تكون امرأة مثل الجدة أو الأم أو أي من حريم القرية، ولا ذكراً مثل أبيها أو محروس أو عامر أو أي من ذكور القرية. فما تريد منى هو أن تكون مختلفة، وأن تتعلم كيف تحول الأحلام إلى تفاصيل حياة يومية، فيما البطركية تتعقبها. فالأب يمنع شقيقتها منال من الزواج ست سنوات، لئلا يذهب راتبها إلى رجل آخر. والجميع يرون أولاد العائلة غزلاناً، بينما يرون زقوم بنات العائلة كزقوم البومة. وفي الجامعة تواجه منى معادلة المطلقة أمام الأستاذ المحترم حسين، وأمام العميد ورئيسي القسم اللذين ينصحان بلفلفة شكواها على الأستاذ. والخلاصة:"أنوثة يعيبها حتى صوتها مقابل ذكورة لا يعيبها الإشهار بشهواتها"أي:"صوت مهمش مقابل صوت السلطة". بعد عشر سنوات من الغياب تعود منى وقد بلغت الثلاثين ليملأها الخوف والكره نحو أسرتها. لكنها ترى أباها في مرضه وهي تسأل:"أي رباط كان بيننا وأنا التي اشتهيت وأد لفظ الأبوة والذكورة؟". وقد رسمت الرواية برهافة تناقضات وتحولات مشاعر منى، وبخاصة نحو الأب الذي تمنت خنقه في مراهقتها، وتجذّذ الآن عيونُ الجميع جسده. وبمثل هذه الرهافة رسمت الرواية علاقة منى بالتاجر الثري سليمان الذي ترضى به زوجاً لأنه سيمضي بها إلى لندن، وهو الذي يبلغ عمره ضعف عمرها، لكأنه أب ثانٍ كما هو الزوج الثاني الذي رفضه الأب الأول. وبالوصول إلى هذه المحطة من ذكريات منى ينتهي ما يشبه جزءاً من الرواية، ويبدأ ما يشبه رواية جديدة. في لندن التي ترفض أن تكشف أقنعتها كي تبصرها منى، تصير هذه التي أحست أنها لا شيء وهي تخرج من بلدها كالغريبة، تصير زوجة شرقية بامتياز. لكن الوقت الذي يقضيه سليمان المتزوج من أخرى، يتقلص، فتلجأ منى إلى"دار الأرقم"لتتحدث مع النساء، وتتعلم قيادة السيارة، وتنفتح لها الدور العربية التي حملت معها كل شيء الى اسكتلندة. وكل ذلك ينغّص على الزوج فيهجرها، ويجن جنونه حين تعمل في مدرسة عربية، وحين تحمل وتمتنع عن الإجهاض، فيضربها، وتشكوه للشرطة، ويصير يخدم نفسه في البيت، ويتدخل لدى المدرسة حتى تسرح من عملها. العودة بعد الولادة عادت منى زوجة شرقية، بينما صار سليمان واحداً من أسرتها البعيدة، والمدينة صارت امتداداً لقريتها. وعبر ذلك تألقت الخصوصية الأنثوية للرواية في تصوير تجربة الحمل والأمومة، بينما يلوب السؤال:"لماذا يكون يوم ميلاد طفلي يوم عذابي؟"وقد أعانت الأخصائية النفسية منى على التجربة، حين بلورت لها مشكلتها في ذاتها، لا في سليمان ولا في الطفل آدم. وهكذا تبلور لمنى الهدف: أن تكون حرة، وصاغت برنامجها: معرفة / تنفيذ / نجاح / استقلال / حياة. ومن أجل ذلك تدربت في مركز التجارة المحلي في دورة لمن يفكر في مشروع خاص، وقدحت شرارة العلاقة مع المشرف الشاب الاسكتلندي ستيورت مكفيرسون الذي تابع بعد الدورة التدريبية خطوة منى الأولى: إنتاج الأطعمة الشرق أوسطية للمطاعم. ومقابل غيرة سليمان وتعويقه، دفع حب منى للمرأة التي صارتها، ورعاية مكفيرسون، إلى خطوة أكبر من النجاح، حتى استقلت بالسكنى بعد أربع سنوات، بينما صديقتها أم منار الفلسطينية تحضّها كصديقتها الإنكليزية إيلين على الصبر على سليمان والتمسك ببيت الزوجية. وإذا كانت غطرسة سليمان تفككت أمام القانون، فالنساء العربيات لا ينين يحذرن منى من عدم الاعتماد على الرجل، كما كانت أمها وشقيقها يحذران. وفي المقابل كانت جارتها كارول تحرضها على العلاقة مع ستيوارت. وقد انتهى كل ذلك إلى الطلاق وكره آدم لأبيه. وإذا كان سليمان عاد ليدخل حياة ابنه بصورة طبيعية، فستيوارت سيتجنبها حيناً تحت وطأة قتل شاب باكستاني مسلم لأخته التي تزوجت من إنكليزي مسيحي. وستلي ذلك مجزرة مدرسة آدم على يد مدمن، والتي يقتل فيها ابن كارول، وبينما تدوّي أنباء الجرائم ضد الأنوثة في تركيا، فيسأل ستيوارت عما تفعله النساء العربيات والمسلمات ضد تلك الجرائم، ويصدع منى:"أنت تشاركين بصمتك في الجريمة"، بينما تحمله هي أيضاً شطراً من المسؤولية. وهنا تنوء الرواية بما حشد الانترنت فيها من تاريخ الجريمة في العالم كله، كما ناءت من قبل بما حشد ستيوارت من تاريخ اسكتلندة. ينقطع سرد هذا الشطر من حياة منى بالالتفات إلى بداية الرواية، والعودة إلى الوطن، حيث الحرمان من حقوق الإنسان والحرية والطفولة، وحيث الجفاف في مقابل الخضرة في بريطانيا. وتحاول منى التأقلم، وتصلح بيت العائلة الخرب باحثةً عن الأمل، لكنها كلما احتكت بالناس ازداد الأمل استحالة. وبمتابعة الرواية للشطر السابق من حياة منى، تصير مسز مكفيرسون، ويلحق بها العم سالم بحثاً عن عمل، ويقرعها على زواجها ونسيانها أنها عربية ومسلمة:"ماشية على حلّ شعرك"و"إنت مش حرة". وسيأتي خبر زواجها بعامر ليتعقبها وهي تلوب:"لو كنت ذكراً لما تبعني العفن، ولما وقف بيني وبين شرفات المستقبل. حتى جنسي الذي لم أختره، أكره ما يلقيه عليّ من قيود". وهكذا تترك ابنها عند سليمان، وتبيع البيت ومشروعها التجاري، وتتخفّى هرباً من عامر والقتل. وحين تظهر تكون قد ولدت ابنتها من ستيوارت، وأنجزت تبديل اسمها وهيئتها، فصارت كما اختارت امرأة ثالثة هي سارا ألكزاندر، تتابع دراستها، وتعود إلى الوطن للمشاركة في مؤتمر حول حقوق الإنسان، وتتحدث عن الجرائم ضد الأنوثة، وتلتقي عمها سالم وشقيقتها سناء اللذين ينشطان للدفاع عن حقوق الإنسان، ولكن من دون أن يعرفها أحد، فبعضهم يقول إن أصلها عربي، وبعضهم يقول إن أصلها يهودي، وهي التي لم تعد"ابنة الصدفة والقدر"بقي لها مما كانت في لبوس منى وفي لبوس مسز مكفيرسون، صوتها القديم مدافعاً عن حقها في الحياة. بذا أنجزت رواية"خارج الجسد"حفرها في البطركية، كما كانت لها إضافتها المتميزة إلى ما أدعوه وعي الذات والعالم في الرواية العربية. وبذا حُقَّ لعفاف البطاينة أن تباهي بما قدمت من الشخصيات الأنثوية والذكورية، فضلاً عما ذكرت من السلاسة والرهافة وملاعبة الضمائر. أما الدفقة الروائية للأصوات النسائية الجديدة، والتي تتعزز برواية"خارج الجسد"فلها كما لما يكتب الذكر من الرواية قول رورتي في صدد وحش الذكورة:"إن ذلك الوحش متمرس جداً على التكيف، وأعتقد أنه سيبقى على وضعه في بيئة فلسفية ذات تمركز منطقي، مثلما يبقى في بيئة فلسفية تناهض التمركز المنطقي".