في ختام رواية"اسمه الغرام"تسأل الكاتبة نفسها ان كانت كتبت فعلاً حكاية امرأة تدعى"نهلا"أم أنها تخيلت قصة امرأة قضت تحت أنقاض منزلها في الجنوب إبان القصف الإسرائيلي في حزب تموز 2006. الكاتبة هي علوية صبح نفسها صاحبة الرواية بحسب ما تفترض اللعبة الروائية، أما"نهلا"فهي الراوية المفقودة التي اختفت في ظروف غامضة بعدما وقعت في حفرة مرض الألزهايمر وكانت للتو اجتازت"محنة"منتصف العمر. إلا أن الإيهام الذي يعتري العلاقة بين الكاتبة وراويتها لم يحل دون أن تكون الراوية شخصية من لحم ودم وأن تكون وقائع - الرواية واقعية زمناً ومكاناً. وهذه العلاقة بين الكاتبة و"بطلتها"التي لا تخلو من الالتباس ظلّت محكومة ببعدها الوهمي: مَن هي الراوية هنا: البطلة أم الكاتبة؟ هل الكاتبة سارقة حقاً كما قالت عنها الراوية"نهلا"متهمة إياها ب"تغيير"مصير شخصيتها أم إن الراوية - البطلة امرأة خرجت من حلم الكاتبة لتصبح مرآة لشخصية كانت تطمح أن تكونها؟ لعل هذا الالتباس الذي يحكم العلاقة بين الكاتبة والراوية - البطلة، زمن الرواية وزمن السرد هو ما يمنح رواية علوية صبح الجديدة"اسمه الغرام"دار الآداب فرادتها، فهي أولاً رواية داخل رواية، ورواية شخصية تبحث عن كاتبتها ثانياً، بحسب لعبة لويجي بيراندللو في مسرحيته الشهيرة، ورواية غايتها نفي وقائعها وكأنها لم تُكتب أو كأنها تنتظر من يكتبها ما دامت راويتها لم تترك سوى أوراق حملت خطّها وخط صديقتها سعاد التي قد تكون الراوية بدورها، الراوية الخفية وغير المعلنة. فالكاتبة التي شككت في صحة هذه الأوراق التي لم تكد تصنع مخطوطاً تنطلق من هذا التشكيك لتكتب رواية عمادها أو غايتها الشك في الصنيع الروائي نفسه. فالراوية نهلا لم تتمكن من كتابة قصة علاقتها بحبيبها هاني لأنها خشيت أن يُفضح أمرها وتُسمى"خائنة"، فهي متزوجة وأم، ثم لأنها شاعرة وليست روائية، وكانت أخفت القصائد التي كتبتها في مقتبل حياتها في حديقة منزل الأهل في الجنوب، تحت شجرة الرمان، خوفاً من سلطة الأم والأخ اللذين كانا يجدان في مثل هذه الكتابة ما يشبه الكفر. لكن نهلا التي تحدّت السلطة العائلية والأخوية لا سيما عندما انتقلت الى بيروت أصرّت على سرد حكايتها تحدّياً للسلطة القدرية أو للقدر نفسه الذي جعل حياتها والحياة من حولها خراباً شمل جسدها وروحها وذاكرتها الشخصية والعامة. انها الكتابة في مواجهة النسيان الذي شكل أحد هواجس نهلا. انها بالأحرى الكتابة التي أضحت سلاحاً ولكن متوهماً، تواجه به الراوية كما كاتبتها، سلطة النسيان الذي هو الموت والفقد والسقوط في عتمة الذاكرة. تختفي الراوية نهلا في حرب تموز ويظل اختفاؤها لغزاً: هل قتلت في القصف الإسرائيلي على قريتها الجنوبية أم أن زوجها سليم قتلها بعدما اكتشف خيانتها اياه مع عشيقها الأبدي هاني؟ أم تراها هربت مع هاني تاركة ماضيها وراءها؟ هذه الوقيعة ستكون حافزاً على البحث عن نهلا وعلى استعادتها واستعادة الحب المجنون الذي جمع بينها وبين هاني، وستكون أيضاًَ ذريعة لكتابة الرواية والشك فيها أو الطعن بها وكأن الكتابة ليست فعل يقين بمقدار ما هي فعل تشكيك ونفي. فالكاتبة تزيد في الختام من وهم الحكاية التي سردتها على لسان بطلتها التي اختفت، فتبدو الحكاية وكأنها من نسج خيال الكاتبة نفسها، لكنها حكاية حقيقية في جوهرها أما إطارها فهو المتوهّم. عندما تروي نهلا حكايتها تغدو شخصية حقيقية، وكذلك الزمن والمكان اللذان يحيطان بها، وعندما تخرج من سياق الحكاية تصبح امرأة متوهمة أو غامضة، بل تصبح طيف امرأة. انها المرأة وطيفها في آن واحد، يتداخلان بعضهما ببعض ويستحيلان مرآة تنعكس على صفحتها صورة الكاتبة والنسوة الأخريات اللواتي احتللن الحكاية ولا سيما سعاد التي كانت بمثابة توأم نهلا أو وجهها الآخر. ولا غرابة أن تستحيل اللعبة الروائية هنا لعبة مرآوية بامتياز، لكن الراوية أو البطلة هي التي تطمح الى ان تكون الكاتبة أكثر مما تطمح الكاتبة الى أن تكون البطلة التي اختلقتها. وفي هذا القبيل تسلك علوية صبح الطريق المعاكس، مسائلة الفن الروائي وقالبة معاييره. فالعلاقة بين البطلة والكاتبة لا تخلو من"الغيرة"التي تعتمل في دخيلاء البطلة عندما تجد نفسها شخصية تخلقها الكاتبة وتلعب بقدرها أو مصيرها. والغيرة هذه ستتأكل أيضاً صديقة البطلة سعاد، التي طمحت بدورها أن تكون شبيهة نهلا. وقد اكتشفت الكاتبة بعد قراءتها مذكرات نهلا وقصاصاتها التي سلّمتها اياها سعاد، أن حكاية سعاد تختلط بحكاية نهلا. وتعترف انها لم تدرك مَن الذي كتب هذه المذكرات ولم تعرف مَن هي صاحبة الخط الذي يختلف في بعض الصفحات. وقد بلغت حال التماهي بين نهلا وسعاد ذروتها عندما قرّرت سعاد أن تموت في سرير نهلا. فهي شعرت أنها فقدت مبرّر وجودها بعد اختفاء نهلا، ولم يكن عليها إلا أن تقصد بيتها الذي تقطنه ابنة نهلا فاتن وترقد على سريرها رقادها الأخير. وهذا الموت الغامض لم يتضح البتة، ما دفع الصديقات الأخريات الى تأويله، كل على طريقتها. وقد تكمن في حال الالتباس هذه ميزة هذه الرواية الفريدة. وقد وظفت صاحبتها هذا الالتباس كما لم يوظفه أحد من قبل، ساعية الى مساءلة الفن الروائي والكتابة نفسها. أما الإشارة الى رواية ماركيز"الحب في زمن الكوليرا"في سياق اللعبة الروائية فلم تكن مجانية فالرواية هذه التي أهداها هاني الى نهلا جعلت الكاتبة تتماهى بصاحبها لتحثّ نهلا على سرد حكاية حبّها التي جرت في زمن الكوليرا أيضاً، لكنها"الكوليرا"اللبنانية التي قضت على هذه الحكاية وعلى شخصياتها جميعاً. فالحلم ب"باخرة الحب"التي جمعت في رواية ماركيز بين العاشقين فلورينتينو وفيرمينا في شيخوختهما سيظل حلماً ب"باخرة"لن تأتي على رغم ان الكاتبة تتوهم في الختام وصول باخرة تحمل امرأة ترتدي ثوباً أحمر ولا تكون إلا بطلتها نهلا. إلا أن نهلا التي قرأت"الحب في زمن الكوليرا"لن تنثني عن معاتبة ماركيز جراء تقصيره في وصف التفاصيل في العلاقة بين الحبيبين اللذين أفنيا عمريهما سدى. وهذا ما يؤكد ان رواية"اسمه الغرام"تختلف كل الاختلاف عن رواية ماركيز، حتى ليمكن القول إن لا أثر لها فيها وإن الإشارة اليها لم تكن إلا من قبيل اللعب الروائي الذي تجيده علوية صبح. فالرواية هي رواية حبّ في ما يعني الحبّ من جنون وأروسية، ومن وعي مأسوي بالعالم، ومن عواطف مبهمة وتناقضات وصراع داخليّ وغربة وعزلة وخيبة. انها رواية الحب المريض، يعيشه أشخاص مرضى، حقيقة أو وهماً، في مكان مريض بدوره، تاريخاً وواقعاً. وقد يكون مشهد الحب الذي جمع بين نهلا وهاني المريض في المستشفى من أجمل ما يمكن أن يكتب عن علاقة لم يحل المرض دون استعارها، فعندما التقته خلال خضوعه للعلاج إثر الجلطة التي أصابته، لم تتردد في تقبيل شفته المرتخية، متلذذة بها وبشللها، وراحت تبلل ريقه الناشف بريقها متنشّقة رائحة الأدوية التي تفوح من فمه كما لو أنها رائحة زهور جميلة. نهر الحكايات ولئن كانت الحكاية هي حكاية نهلا الراوية - البطلة، فأن ما ترويه نهلا - وما تكتبه الكاتبة - ليس إلا نهراً متدفقاً من الحكايات التي تتقاطع فيها شخصيات عدّة وأزمنة وأمكنة ووقائع وأحداث. انها حكاية الذاكرة في توهّجها وانقطاعها، مثلما هي حكاية الجسد في أحواله كافّة، وحكاية المكان الذي تتقاسمه القرية الجنوبية وبيروت التي كانت بمثابة"الصدمة"في حياة نهلا وصديقاتها. لا تحصى الحكايات في هذه الرواية، مثلها مثل الحكايات في روايتي علوية صبح السابقتين"مريم الحكايا"و"دنيا". حكايات يخرج بعضها من بعض، يكمّل بعضها بعضاً وينقض بعضها بعضاً. لكنّ هذا لا يعني أن"نظرة"الراوية هي نظرة شمولية توجه الشخصيات والأحداث كما يحسن لها، أو تفرض الأقدار والنهايات بحسب وجهتها، بل على العكس تماماً، فالشخصيات تحيا مصائرها وكأنها أقدارها وتعانق خيباتها وكأنها تكتشف فيها نفسها. شخصيات تطاردها مصائرها التي تعجز عن تغييرها. سعاد صديقة نهلا الحميمة تختار العزلة وتغلق الباب على نفسها بعد أن يصيبها مرض جلدي، وكان زوجها نفر منها وانفصل أولادها المتدينون عنها رافضين سفورها. وعندما تلجأ مرة تحت القصف الى محلّ للملابس المستعملة لا تمنع نفسها من الاستسلام للشاب البشع، صاحب المحل، فتمارس الجنس معه في الحمام الضيق الذي يفوح بالرطوبة والقذارة. ولم تكن هذه العلاقة إلا لقاء عابراً حدث بالصدفة في لحظة من الوحدة والخيبة. ولم يكن على سعاد في الختام إلا أن تموت في سرير نهلا، موتاً يشبه اختفاء نهلا نفسها. أما نادين الصديقة الأخرى فتشبه نهلا وسعاد في خيبتها الكبيرة التي عاشتها في القرية أولاً عندما انتحرت شقيقتها ربيعة إثر قصة حب"ذكوري"، ثم في المدينة التي انجرفت في أهوائها انتقاماً من والدها"الذكوري"أيضاً ومن أمها الضحية الذليلة التي كادت تجن جراء بطش زوجها بها، وكانت في أحيان تضرب أسفل حوضها بحذاء زوجها محتقرة الرجل والجنس معاً. الصديقة الأخرى عزيزة التي كانت تتمسك بعذريتها معتبرة اياها ديناً لزوجها المقبل والتي كانت تختلي بنفسها، تتحوّل في بيروت شيئاً فشيئاً الى مومس تبيع جسدها لا سيما الى الرجال العجائز بغية الحصول على المال. حتى جواد شقيق نهلا الذي كان يمارس سلطته"الأخوية"القاسية عليها في القرية ينحرف في المدينة ويستسلم للعاهرات ويصبح مهووساً لا يتلكأ عن اللجوء الى حبوب"الفياغرا"... إلا أن نهلا تظل هي الشخصية الرئيسة في رواية"إسمه الغرام"، ليس لأنها الراوية بل لأنها هي المرآة التي تنعكس فيها الوجوه وتتقاطع من حولها الوقائع والحكايات. انها الراوية التي تسرد سيرتها التي هي سيرة المكان بوجهيه القروي والمديني، وسيرة الزمن المتعدّد الذي هو زمن ما قبل الحرب الأهلية وزمن الحرب الأهلية وزمن السلم الأهلي الذي ينتهي هنا عشية حرب تموز 2006. ولعل الحبّ الذي جمع بين نهلا وهاني يضحي هو الزمن اللازمني أو الزمن الذي لا حدود له، الذي تنصهر فيه الأزمنة المجزّأة، حتى ليغدو كأنه الماضي والمستقبل الذي أتى ولم يأتِ. فالنسيان هو القدر الذي آل هذا الحب اليه، والاختفاء هو الذي صنع أسطورة الحبيبة فيما كان المرض مصير الحبيب. كان على هاني أن يكون مسيحياً وعلى نهلا أن تكون شيعية ليرتسم خط التماس في الروح، وليخترق الحبيبان جدار الحرب الأهلية متجاوزين تناقضات التاريخ والواقع، عبر الحب، الحب الجارف، الحب الروحي، الحب الحسيّ والأروسيّ، المجنون والأبديّ. تكسر الكاتبة هنا ذاكرة الممنوع والمحظور وتواجه ثقافة"التابو"بجرأة غير مألوفة. عندما تغادر نهلا القرية التي تمثل ماضيها المضطرب لا تجد حرجاً في التمرد على سلطة الأخ والأم. الأب كان أشبه بالسلطة القائمة في الظل، وكان من السهل عليها أن تواجهها منجرفة في حياة المدينة كفتاة"مودرن"ترفض ارتداء الحجاب والمنديل الإيشارب وتؤثر التنانير القصيرة بحسب"الموضة"التي كانت رائجة حينذاك، في السبعينات. كان الانتماء الى المدينة ذريعة للشابة نهلا كي تنهي علاقتها بالقرية والماضي الذي لم يكن بريئاً تماماً، ولتبدأ حياة جديدة خالية من أية تصورات مسبقة أو معايير جاهزة أو شروط مفروضة عليها. هكذا وقعت في حب هاني المسيحي وظلت على علاقة به بعد زواجها من سليم، وحتى بعد انجابها ولديها أحمد وفاتن، وبلوغها منتصف العمر الذي كان محنتها الأقسى والأعنف. ولا تخفي نهلا شعورها ليلة الدخلة بأنها لم تسلّم جسدها لزوجها سليم بل تخيلت نفسها مع حبيبها هاني. انها سلطة المخيلة القادرة على تخطي الواقع والتاريخ مهما كان حضورهما شديداً وراسخاً. وهي المخيلة نفسها تتيح لها أن تحلم أنها حملت بحبيبها وولدته. وهذا الحلم يقابل رغبة هاني في سكنى رحمها وكأنها أمه. إلا أن نهلا التي كانت عشيقة حقيقية لم تشعر يوماً انها خائنة. الحب هنا أقوى من الزواج وأعمق وأنقى. زواج بلا حب زواج فاشل حتماً، بل قد يكون ضرباً من الخيانة. وعندما أصبحت نهلا أماً عاشت الأمومة بقوة وحنان على رغم حبها الدائم لعشيقها. بل هي تكتشف عندما كانت ترضع ابنتها، سحر الأمومة ممزوجاً بالحبّ:"كنت أشعر لحظة الرضاعة بأني قبضت على لذة الحياة مثلما قبضت ابنتي عليها، لذة تفوق اللذة الجنسية وتجلب لي الاكتفاء الذاتي مثلما تجلبها لها". قد تكون رواية"اسمه الغرام"رواية ما يُسمى محنة"منتصف العمر"وقد نجحت صبح في التقاط معالم هذه المحنة في الجسد والروح ، كما في الحياة التي ليست بالحياة. هذه ليست محنة الشيخوخة بمأساتها وقد كتبها روائيون كثر بل محنة منتصف العمر، محنة مقتبل الخريف عندما يأخذ الجسد في التساقط. انها المحنة التي يبدو فيها التمرين على الموت حاجة للتصالح معه. هذه المحنة، هي أيضاً محنة"منتصف العمر"التي تعيشها الذاكرة عندما تخون وتصبح هوّة لا قعر لها.