تظل الكتب، والمطبوعات الورقية، هي المصدر الرئيس للعلم والثقافة، والمعرفة، بصفة عامة، رغم هذا التطور الهائل في الوسائل الإليكترونية، التي مكنت القراء من امتلاك مكاتب صغيرة بكاملها، في شريحة، لا يزيد حجمها عن حجم عقلة الأصبع الواحد للإنسان. كما يسرت هذه التطورات للقراء والباحثين، الحصول على أي مرجع، أو وثيقة، يحتاجونها، في دقائق. ومع ذلك، يظل للمادة المطبوعة ورقيا مزايا، أظن أنها ستضمن استمرار تصدرها لمصادر المعرفة، ولو إلى حين. ومن مظاهر تقدم بلادنا العزيزة، ومواكبتها للتطور العالمي، خاصة العلمي والتقني والمعرفي، هو كثرة الإصدارات الثقافية، وتطورها، كماً ونوعاً. وهذا ما يلاحظ مؤخرا. ففي كل يوم، تقريبا، يصدر الكاتب فلان، أو علان، كتابا أكاديميا، أو علميا، أو تقنيا، أو أدبيا، أو فنيا... إلخ. ومن العادات الجميلة إهداء الكتب، وتبادلها بين الأصدقاء والمعارف. ولكن القراءة لدينا ما زالت محدودة، وأقل مما يجب، كما تشير بعض الدراسات. ولم يواكب هذا التقدم والتطور في النشر، مع الأسف، توسع في القراءة. وكم يسرني، وأنا أكتب هذه الأسطر، رؤية كتب عدة على مكتبي، مهداة إلي من أصدقاء وزملاء أعزاء. ونظرا لافتراضي أنها مؤلفات قيمة، وبذل في إصدارها جهد ثمين، ولمعرفتي الوثيقة بمؤلفيها، وبارتفاع مستوى تفكيرهم، وتصفحي لهذه الدرر (مبدئيا، أعتقد أنها درر في مواضيعها)، فقد قررت أن أقرأها، كتابا، بعد آخر. ثم أكتب ملخصا سريعا لكل كتاب... راجيا أن يجد القارئ الكريم في ما أكتب بعض ما قد يفيد. والواقع، أن تحليل محتوى كتاب في مقال صحفي لا يفي الكتاب حقه، ولا يوضح أهم مزاياه، وعيوبه، ولكنه يلقي الضوء عليه، ويلفت النظر لموضوعه، لمن يهمه الأمر، خاصة في حالتنا الثقافية التي تتسم بالعزوف عن القراءة. أما تحليل أي كتاب تحليلا علميا ضافيا (Book Review) فمكانه الدوريات العلمية، وليس الصحف السيارة. وأتمنى أن يسعفني الوقت، وتمكنني الصحة، من كتابة تحليلات علمية، لبعض الكتب، على الأقل. ولا أقصد بالكتابة هنا تقديم مجاملة لأحد، أو محاباة لإنتاجه. بل المقصد هو - كما سوف نرى - التقييم الانتقادي السريع لمضمون كل كتاب، والإشارة (وربما الإشادة) للمعلومات التي يستحسن للمثقف الاطلاع عليها، ولو من باب المعرفة بالشيء. كما أن الكتابة عن الكتب قد تبعدنا بعض الشيء عن الخوض في «السياسة»، هذا المجال الشائك، وإن كنت أؤمن بأن السياسة داخلة، إما بالطول، أو بالعرض، أو بالطول والعرض معاً، في كل شيء. **** وسأبدأ اليوم بكتاب لسعادة السفير المخضرم عبدالله عبدالرحمن عالم، وهو بعنوان: تأملاتي وحصاد السنين (جدة: المؤلف/ دار المنهاج للنشر والتوزيع، 2021م). يقع الكتاب في 416 صفحة من النوع المتوسط. ويزخر حوالى ثلث الكتاب بالصور الفوتوغرافية عن الحياة الخاصة والعملية لكاتبه. ومن الوهلة الأولى، يبدو الكتاب وكأنه سيرة ذاتية موسعة لسعادته. وتبين أنه يتضمن سيرة ذاتية موجزة، ولكنه يحفل بالمعلومات، والمواقف التي مورست فيها الخبرة، والمعرفة، بما يفيد من يخوض تجارب مشابهة. قسم الكتاب إلى: مقدمة، وقسمين رئيسين: القسم الأول: خصصه للحديث عن مسقط رأسه، مدينة مكةالمكرمة، معبرا عن ولعه وحنينه الدائم لهذه البقعة المقدسة. واحتوى القسم الأول على ثلاثة فصول: الفصل الأول بعنوان مكةالمكرمة: المكان والإنسان. والفصل الثاني تحدث فيه عن «الطوافة»، ونشأتها، باعتباره من عائلة تمارس مهنة الطوافة. وفي الفصل الثالث تحدث عن ميلاده، ونشأته في محبوبته مكة. أما القسم الثاني من الكتاب، فقد تضمن عشرة فصول، أو على الأصح، عشر «محطات» - كما سماها - وتعني العشر الدول التي مثل بلاده فيها. وتحدث عن تجربته في كل محطة. وهذه الدول، هي: مصر، لبنان، نيجيريا، اليابان، السودان، أمريكا، تونس، الصومال، إندونيسيا، عمان. فقد قضى حوالى نصف قرن، يخدم بلاده، ويمثلها في هذه الدول العشر... بدءا بمصر، وانتهاء بعمان. إضافة لذلك، أورد بعض الذكريات، والإنجازات، وما قدمه من جديد. وأنهى كتابه ب «خاتمة» موجزة. ومن أبرز إنجازاته، تشجيع المرأة السعودية، بدءا بالسيدة الفاضلة زوجته، وغيرها، للانخراط في العمل الدبلوماسي، والخيري، خدمة لبلادهن. وما مارسه سعادته من مهام وساطة، وجهود توفيقية، انعكست بالإيجاب على صورة المملكة، ومكانتها الدولية. **** ويمدنا علم السياسة والعلاقات الدولية، ب «مداخل» علمية، ومنطقية... و«أطر تحليلية» يساعد كل منها على تحليل المواضيع ذات الطابع السياسي، بشكل منطقي، يركز على أهم عناصر الموضوع، وينظم تناوله، ويحدد نقاطه وأبعاده الهامة. وفي حالتنا هذه، لم أجد أفضل من إطار «أهم وظائف السفير، أو المبعوث الدبلوماسي» لتقييم، أو تقويم، المسيرة العملية للسفير عبدالله عالم، التي أوجزها في كتابه هذا. يذكر علم العلاقات الدولية، بما فيه مواضيع الدبلوماسية والقانون الدولي، والقانون الدبلوماسي بخاصة، أن السفير، أو المبعوث الدبلوماسي الدائم لأي بلد، يقوم - قانونا وعرفا - بوظائف عدة لصالح دولته، أهمها الوظائف الخمس التالية: 1- العناية برعاية وحماية مواطني بلده، في الدولة المبتعث إليها. 2- تمثيل بلده، رسميا، والتعبير عن إرادة حكومته، ومواقفها تجاه القضايا الثنائية، والقضايا ذات الاهتمام المشترك. 3- التفاوض باسم بلده، مع المسؤولين بحكومة البلد المعتمد لديه. 4- كتابة التقارير، وتوفير المعلومات عن أوضاع وأحوال البلد المضيف، التي يهم دولته معرفتها. 5- الإسهام في رسم وتنفيذ السياسة الخارجية لبلده، خاصة تجاه الدولة المرسل إليها. **** تلك هي أهم «الوظائف»، والمهام التي يجب أن يقوم بها الممثل الدبلوماسي الدائم لبلده، وبمهارة وحكمة، وبما يحقق أهداف بلده، ويحسن علاقاتها مع الدولة المرسل إليها. ومن قراءة كتابه «تأملاتي وحصاد السنين»، أعتقد أن السفير عبدالله عالم قد قام بهذه الوظائف، وغيرها، خير قيام، بدليل استمراره في الخدمة الدبلوماسية، وتدرجه فيها، على مدار نصف قرن. ولا شك، أن لوزارة الخارجية السعودية مقاييس حاسمة، ومنصفة، لقياس أداء دبلوماسييها. وأظن أن أبا باسم قد حظي بأعلى درجات التقييم. وأعتقد أن المسيرة العملية لسعادة السفير عالم تجعله يستحق تقديرا ممتازا، نظير ما قام به من جهود كبيرة، لخدمة بلاده، في المجال الدبلوماسي الصعب. ولهذا الحديث صلة.