أتحدث اليوم عن «القانون».. أقرب المجالات إلى السياسة، وعلمها. وهو حديث خواطر عن بعض أهم أسس وأصول وضع الأنظمة (القوانين) المختلفة. إن التنظيم (التقنين) هو حاجة ضرورية وماسة لسير الحياة العامة الحديثة، سيراً سلساً ومنطقياً وعادلاً، وإيجابياً. ولإدراك أهمية التقنين في أي جانب من جوانب الحياة، علينا أن نتخيل عدم وجود «نظام» (قانون) يحكم سير ونشاط ذلك الجانب. غياب ذلك التنظيم سيعني: الفوضى والعشوائية.. وسيادة قانون الغاب.. الأمر الذي سيؤدي إلى الارتباك والإزعاج والظلم. ومن هنا، تأتي العلاقة الوطيدة بين القانون والسياسة الإيجابية. لذلك، أصبح القانون والتقنين (التنظيم) أبرز سمات التحضر والتقدم الحضاري الإنساني. كلما تزايد كم القوانين، وعلا نوعها، وخدمت الناس، وحققت أكبر قدر ممكن من العدالة لهم، كلما كان ذلك دليلاً على التقدم الحضاري للمجتمع المعني وسلامته، والعكس صحيح تماماً. وبالطبع، فإن جوانب الحياة العامة المختلفة تتفاوت أهميتها، وطبيعتها، من جانب لآخر. فكلما اقترب الجانب من الحقوق الأساسية للإنسان زادت أهميته، وتصاعدت خطورته. إن تنظيم استخدام موقف للسيارات (مثلاً) أقل أهمية -ولا شك- من تنظيم استخدام تدفق مياه الشرب الى المنازل، رغم أهمية الجانبين محل المثال، وهكذا. **** وقد اكتشف الفيلسوف اليوناني العبقري أفلاطون (427 - 347 ق.م) ضرورة القانون، وأهميته، وأهمية الالتزام به، في الحياة البشرية العامة. فخلص إلى أنه في حالة عدم إمكانية تطبيق دولته المثالية (الفاضلة)، التي يحكمها الفلاسفة والعلماء، فإن البديل الأفضل هو «دولة القوانين»... أي الدولة التي تكون لديها قوانين عادلة، وتلتزم بتطبيقها على الجميع. ثم جاء بعده تلميذه أرسطو (384-322 ق.م) فوضع أهم ثلاثة أسس يجب أن تقوم عليها الدولة ذات الحكومة الصالحة، في رأيه، وكان أولها: القانون (الدستور). ومما يدلل على أهمية التقنين، كونه من أهم وظائف أي برلمان، أو سلطة تشريعية عليا. فالبرلمان، هو ممثل الشعب -أي شعب- ونبضه ونائبه، وهو الأعرف باحتياجاته، وظروفه، وآماله، وآلامه، وتطلعاته. لذلك، يتصدى لصياغة أهم القوانين، والتشريعات، ويتولى، مع السلطتين التنفيذية والقضائية، متابعة القوانين والنظم، وضمان الالتزام بها. **** وهناك، ولا شك، أسس ومبادئ كثيرة، يوضحها لنا القانونيون، ويتوجب مراعاتها تماماً عند صياغة، وسن، أي قانون، أو نظام. ومراعاة هذه الأسس تعني مراعاة لحيثيات «العدالة»، القائمة على مبادئ، أو عقيدة معينة. ومن أهم أسس التنظيم (التقنين) هذه أن يؤخذ في وضع أي قانون كل معطيات الواقع، أو الوضع، الذي يحاول تنظيمه. إن الحرص على صياغة واستصدار قوانين ممتازة وراقية، دون اكتراث يذكر بالواقع الفعلي على الأرض، وبمدى إمكانية التطبيق، هو أمر غير عملي، و«ترف قانوني» إن صح التعبير. فأي قانون -مهما كان راقياً- لا قيمة له، دون تطبيق صحيح... يحقق -في الواقع- جوهره، وهدفه. فقد يتفنن بعض القانونيين والمختصين في صياغة وتمحيص و«تطوير» نظام «عصري وجيد. ولكن، هذا النظام يظل غير مناسب، طالما لا توجد «الآلية» القضائية المناسبة لتطبيقه. ومثال آخر، نظام المرور، في أي بلد، (وهو نظام حيوي وهام جداً... يمس جانباً من حياة الناس اليومية)، مهما كان متكاملاً، ومتميزاً، لا يمكن اعتباره تطوراً إيجابياً ما لم توجد الإمكانات التي تضمن تفعيله في أرض الواقع، وتوجد الآلية -والقدرة- المناسبة لتطبيقه، وتحقيق الأهداف السامية من إصداره. فالقوانين مهما كانت جميلة وإيجابية، تفقد أهميتها، إن لم توجد الإرادة والقدرة على إنفاذها، وعلى أكمل وجه ممكن. العبرة إذاً، ليس بإخراج نظام ممتاز وكامل ونموذجي، بل في قابلية (وإمكانية) ذلك النظام للتطبيق الفعلي الممكن، في واقع معين. وهذا يعني: وجوب الاهتمام ب«الظروف» والإلمام بمدى تمكنها -أي تلك الظروف- من تطبيق الأنظمة الممتازة، والعادلة.. أولاً، وقبل «سن» وتنقيح تلك النظم والقوانين، والتباري في ضبط صياغتها. **** ومن أهم أسس التقنين السليم، هي: المراجعة الدورية لكل قانون (نظام). كأن يراجع القانون مرة كل خمس سنوات، أو مرة كل عشر سنوات، على الأكثر. فلا شك أن الحياة العامة متغيرة دائماً، وفي حراك متواصل. وتجد فيها أمور، وتخبو فيها أمور؛ لذلك، لا بد من «مواكبة» هذا التغيير المستدام، عبر «إعادة النظر» في كل قانون، بشكل دوري. ومن ثم اجراء «التعديل» اللازم عليه، بالحذف، أو الإضافة، أو بهما معاً. وبحيث لا يقل وقت المراجعة- في رأي- عن خمس سنوات، ولا يزيد عن عشر سنوات، على دخول القانون المعني، مرحلة النفاذ. ومن ناحية أخرى، يجب إعطاء القانون الجيد مدة كافية للتطبيق. فاستقرار القوانين يسهم في استقرار الحياة العامة، والعكس صحيح. إذ إن تغير القوانين بين يوم وليلة، أو خلال مدد قصيرة نسبياً، يسبب ارتباكاً في سير الحياة العامة، وربما تعطيل لكثير من مصالح الناس المعنيين؛ لذا، يتوجب التوفيق بين: ضرورة استمرارية ورسوخ القوانين، وضرورة مراجعتها، وتعديل ما يتوجب تعديله فيها.. كي نضمن استتباب ورسوخ القوانين، وفي ذات الوقت تحديثها، من حين (مناسب) لآخر.. مواكبة لمستجدات الحياة العامة.