أتحدث اليوم عن بعض أهم أسس وأصول وضع الأنظمة (القوانين) المختلفة. إن التنظيم (التقنين) هو حاجة ضرورية لسير الحياة العامة سيراً سلساً ومنطقياً وعادلاً، ومجرداً من الأهواء. ولإدراك أهمية التقنين (التنظيم) علينا أن نتخيل عدم وجود «نظام» (قانون) يحكم سير ونشاط جانب ما من جوانب الحياة العامة. غياب ذلك التنظيم سيعني: الفوضى والعشوائية.. وسيادة قانون الغاب، وتحكم الأهواء والمصالح الخاصة.لذلك، أصبح القانون والتقنين أبرز سمات التحضر والتقدم الحضاري الإنساني. كلما تزايد كم القوانين، وحسن نوعها، كان ذلك دليلاً على التقدم الحضاري للمجتمع المعني، والعكس صحيح تماماً. وبالطبع، فإن جوانب الحياة العامة المختلفة تتفاوت أهميتها من جانب لآخر. فكلما اقترب الجانب من الحقوق الأساسية للإنسان زادت أهميته، وتصاعدت خطورته. إن تنظيم استخدام موقف للسيارات (مثلاً) أقل أهمية -ولاشك- من تنظيم استخدام المياه في المنازل، رغم أهمية الجانبين محل المثال، وهكذا. ولعل هذه الحقيقة الساطعة توضح أهمية، وضرورة، تقنين أحكام الشريعة الإسلامية، في المجتمعات الإسلامية، وخاصة فيما يتعلق بأساسيات الاجتماع البشري، وحقوق الفرد وواجباته. وسنتطرق لهذا الموضوع الحيوي المهم في مقال قادم، بإذن الله. ومن أهم أسس التنظيم أن يؤخذ في وضع القانون كل معطيات الواقع، والوضع الذي يحاول القانون تنظيمه. إن الحرص على صياغة واستصدار قوانين ممتازة وراقية، دون اكتراث يُذكر بالواقع الفعلي على الأرض، وبمدى إمكانية التطبيق، هو أمر غير عملي، و«ترف قانوني» -إن صح التعبير. فأي قانون -مهما كان راقياً- لا قيمة له دون تطبيق صحيح.. يحقق -في الواقع- جوهره، وهدفه.وعلى سبيل المثال، تفنن بعض القانونيين والمختصين في صياغة وتمحيص و«تطوير» نظام «المشاركة بالوقت» في الوحدات السكنية في بلادنا. وهو تقنين ضروري وجيد. ولكن، هل مثل هذا النظام (العصري) قابل للتطبيق -في الوقت الحاضر، على الأقل- في مجتمع بلد نامٍ كالمملكة؟! هل لدينا «الآلية» القضائية المناسبة لفض المنازعات التي تنشأ -بطبيعة الحال- عن تطبيقه؟! ألا تنوء محاكمنا -وإماراتنا وشرطنا- بمشكلات لا حصر لها بين مؤجرين ومستأجرين للعقار العادي.. وهي مشكلات تقوم على عقود في منتهى البساطة والوضوح؟! ومع ذلك تبقى معظم هذه القضايا معلقة.. ومتزايدة، بل ومتراكمة. ومثال آخر، نظام المرور، الجديد نسبيا. وهو نظام حيوي جداً يمس جانباً مهماً من حياة كل منا اليومية، وتحتاج إليه بلادنا أيما حاجة. وقد جاء هذا النظام متكاملاً، ومنقحاً، بل ومتميزاً. لكن الأهم هو أن «يفعّل»، وتوجد الآلية -والقدرة- المناسبة لتطبيقه، وتحقيق الأهداف السامية من إصداره. فالقوانين مهما كانت جميلة وإيجابية تفقد أهميتها، إن لم توجد الإرادة والقدرة على إنفاذها، وعلى أكمل وجه ممكن. وأغلب إدارات المرور لدينا -مع الأسف- وخاصة في المدن الكبرى، تعاني من ضعف تأهيل أفرادها، وقلة عددهم. فالإمكانات البشرية اللازمة لتحقيق «ضبط مروري» مناسب ومقبول، متدنية جداً.. والقصور في «الكيف» و»الكم» فيها واضح للعيان. وإن لم تحل مسألة «الإمكانات» سنظل نعاني من تدني نسبة «الضبط المروري» في شوارعنا وأزقتنا وطرقنا، وسنظل من أسوأ دول العالم في حوادث ومخالفات المرور -كما هو حالنا الآن- مهما كانت قوانيننا المرورية ممتازة. بعض إدارات المرور في مدننا تعمل -كما يقولون- بأقل من ربع الطاقة البشرية والآلية اللازمة لها. ونتج عن ذلك أن نسبة «الضبط المروري» فيها تنخفض.. لتصل إلى حوالي 15 % فقط.. أي أن 15 % فقط من المخالفات المرورية يتم ضبطها، ومعاقبة مرتكبيها!فالعبرة، إذاً، ليست بإخراج نظام ممتاز وكامل ونموذجي، بل في قابلية (وإمكانية) ذلك النظام للتطبيق الفعلي الممكن، في واقع معين. وهذا يعني: وجوب الاهتمام ب»الظروف» والإلمام بمدى استعدادها -أي تلك الظروف- لتطبيق الأنظمة الممتازة، والعادلة.. أولاً، وقبل «سن» وتنقيح تلك النظم والقوانين، والتباري في ضبط صياغتها. وهذا يجب أن لا يعني «النزول» بالقوانين إلى مستويات حضارية متدنية، بل إن المقصود هنا هو صنع «نظم» متطورة، وب»أسنان».. أي بقدرة على التطبيق، ومصداقية لدى المعنيين بتطبيقها. فالقانون المتطور يمكن أن يسهم -إيجاباً- في الارتقاء الحضاري لأي مجتمع، ودعمه على سلم التقدم. ومن أبرز أسس وضع النظم أيضاً، التأكيد على ضرورة «المراجعة الدورية» لكل نظام.. لإجراء التعديل اللازم فيه (بالحذف والإضافة، أو بهما معاً)، والذي يكشف التطبيق لزومية إجرائه، وفي أضيق الحدود الممكنة.. ضماناً لاستقرار وثبات هذه النظم. فلا تخفى مساوئ إجراء التعديلات المتلاحقة والمتسرعة، وما يسببه ذلك من إرباك وتخبط للمعنيين بتلك النظم. ولا يفوتني هنا التنويه بدور مجلس الشورى الحاسم في وضع وصياغة النظم المختلفة في بلادنا. وهو دور رئيس، وغير ظاهر بقدر كافٍ. وقد تكون لنا وقفة لاحقة مع هذا الدور أيضاً. والله المستعان.