وهب الله دول الخليج العربي علاقات خاصة وسمات مشتركة وأنظمة متشابهة أساسها العقيدة الإسلامية وإطارها الرغبة السياسية والشعبية لحكومات وشعوب هذه الدول نحو الوحدة.. مما ساعد على نقل وبلورة هذا التناغم في المعطيات إلى ما يحقق التكامل والترابط بين هذه الدول وشعوبها بشكل مادي, هذا ما أكدت عليه ديباجة النظام الأساسي لمجلس التعاون لدول الخليج العربية, وقد بيَّن هذا النظام في المادة الرابعة منه إن المجلس يرمي, من بين عدد من الأهداف, إلى وضع الأنظمة (القوانين) المتماثلة في مختلف الميادين كالشئون التشريعية, والإدارية, والاقتصادية, والمالية, والتجارية ونحو ذلك, فإذا كان التكامل والترابط بين دول مجلس التعاون يعد ضروريا وخطوة أولى نحو الوحدة.. فان هذه الوحدة كذلك تحتاج إلى ما يترجم هذا الانسجام بين الدول الأعضاء إلى واقع ملموس .. ووسيلة ذلك هو توحيد القوانين والاستراتيجيات فيما بين الدول الأعضاء لأن ذلك هو المرآة التي تعكس مدى وحدة وقوة هذا الكيان الإقليمي أمام المجتمع الدولي .. وبالتالي تبرز جديته في مواجهة المتغيرات العالمية ومصداقيته أمام التكتلات الاقتصادية العالمية على الأقل في الجوانب الاقتصادية لأن التوجهات السياسية نحو هذه الوحدة ونجاحها محسوم بشكل منسجم .. لذا كان من الضروري توحيد الجهود التشريعية والقضائية للخروج ليس فقط بمنظومات إجرائية مستقرة ومتعارف عليها وفقا للقواعد العامة في القوانين للدفع بالعمل العدلي والقانوني بما يمكن الاستفادة منها .. بل الأهم من ذلك العمل على توحيد القوانين في جانبها الموضوعي للقضاء على تفاوتها وتنازعها ووصولاً إلى ما يحقق استقرار المراكز والتصرفات القانونية على مستوى دول المجلس .. وانطلاقاً من ما ذكر أعلاه وتحديداً بعد نشأة المجلس في عام 1981م بفترة وجيزة, كلف وزراء العدل بدول المجلس عدد من الخبراء المختصين للبدء بتقنين عدد من مشروعات القوانين الموحدة ضمن إطار أحكام الشريعة الإسلامية لتنظم مجالات عديدة وتندرج تحت مظلة القانون المدني أو الجزائي أو التجاري أو الأحوال الشخصية, آلية توحيد هذه القوانين تمر بعدة قنوات قبل إقرارها, فقد تكون بداية بوضع التصور المبدئي للمقترح القانوني الموحد وإجراء الدراسات والاستفادة من تجارب الدول الأخرى في هذا الشأن وصولاً إلى مشروع هذا القانون الموحد في صورته النهائية, أو قد يتم الاستفادة من تجربة دولة من الدول الأعضاء عندما تقدم مقترح مشروع القانون الموحد في صورته الكاملة, ومن ثم تمكن الدول الأعضاء الأخرى من دراسته وإجراء التعديلات اللازمة عليه, وفي كلا الحالتين وبعد الموافقة من قبل الوزراء المعنيين على هذا القانون الموحد, يتم عرض مشروع القانون المقترح في صورته النهائية لاحقاً على مقام المجلس الأعلى تمهيداً لإقراره كقانون موحد, وبعد إقراره يصبح القانون الموحد نافذا وملزما متى أقر صراحة من المجلس الأعلى ليكون بهذه الصورة, أي تلزم جميع دول المجلس بتطبيقه وهذا يستلزم بداهة إلغاء أو تعديل القوانين الوطنية المثيلة أو المتعارضة مع القانون الخليجي الموحد الملزم, مع الأخذ في الاعتبار الفروق بين الدول الأعضاء بشأن الأدوات الدستورية أو النظامية اللازم إتباعها لنفاذ القوانين, في المقابل واستثناءً قد يقر هذا القانون الموحد ليكون استرشادياً في مرحلة أولية ولفترة محددة يتم تجديدها عند الضرورة, وبالتالي يصبح هذا القانون الموحد نموذجياً أي للدول الأعضاء اختيارياً الاستفادة منه عند سَنِّ قانون وطني مثيل أو عند إجراء التعديلات التشريعية بشكل تدريجي على قوانينها الوطنية المثيلة استعداداً لمرحلة التطبيق الإلزامي لهذا القانون النموذجي فيما بعد.. وقد أقر المجلس الأعلى خلال مسيرته عدد من القوانين الموحدة والمهمة في الجانبين الموضوعي والإجرائي في مجالات عدة من فروع القانون, وتم تقنينها وصياغتها بطريقة مهنية ضمن إطار أحكام الشريعة الإسلامية, وتتفاوت أهميتها حسب الموضوع التي تنظمه, لكن ما يلفت الانتباه في هذه القوانين الموحدة بالنسبة لنا في المملكة هو ثلاثة مشاريع رئيسية, وهي: (أولا) النظام (القانون) الموحد للأحوال الشخصية: ويعتبر هذا القانون احد المشروعات الرئيسية لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية, ويتناول هذا النظام في 282 مادة الأحكام المتعلقة بالأسرة وشخصية الإنسان مثل: الزواج والطلاق والأهلية والولاية والوصية والمواريث, وقد أقر العمل بهذا النظام بصفة استرشادية في عام 1996م ولازال على هذا النحو لإعطاء الدول الأعضاء الفرصة والوقت للاستفادة منه عند إعداد قوانينها الوطنية. (ثانيا) النظام (القانون) المدني: وهو عبارة عن جهد لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية متضمناً القواعد الكلية الفقهية, وأحكام الالتزامات ومصادرها, والعقود, والملكية والحقوق المتفرعة عنها, صيغت كلها في 1242 مادة قانونية, وأقر هذا القانون في عام 1997م كقانون استرشادي ولازال العمل به جارياً على هذا النحو لتمكين الدول الأعضاء من الاستفادة منه. (ثالثا) النظام (القانون) الجزائي: وهو عبارة عن محاولة لتقنين أحكام الشريعة الإسلامية متضمناً المبادئ العامة للقانون الجنائي العام, والعقوبات والتدابير الوقائية, وجرائم الحدود والقصاص, وجرائم التعزير كالجرائم الماسة بأمن الدولة وسلامتها أو الجرائم التي تقع على الأموال أو الأشخاص أو الموظفين العامين وغير ذلك, فرغت نصوص هذا القانون على شكل مواد نظامية في 556 مادة, وأقر هذا القانون كقانون للعقوبات في عام 1997م بصورة نموذجية ولازال العمل جارياً به على هذا النحو لتمكين الدول الأعضاء من الاستفادة منه.. فإذا كنا نرى بجدوى تغليب الطموح على العقبات والتريث على الاستعجال فان ذلك لا يتعارض مع القول بأن مسيرة المجلس قاربت الثلاثين سنة من عمره وسياسة القوانين الخليجية الموحدة وفكرة تعميمها بشكل إلزامي على جميع الدول الأعضاء تسير ببطء شديد وغير صحي النتائج, فيكفي إن نتذكر ونتأمل إن دول مجلس التعاون تهيأ لها من الركائز ما لم يتهيأ لغيرها من الكيانات الدولية الأخرى ومع ذلك تخطت العقبات وتوحدت قوانينها واستراتيجياتها, بالنسبة لنا في الخليج لا يمكن إنكار التحديات المحيطة بنا وكذلك لا نحتاج إلى أزمات – لا سمح الله – لاختبار مدى قوة وحدتنا, فالطموحات على المستوى الشعبي عالية وكذلك الرغبة السياسية أعلى نحو التلاحم, لكن تجربة القوانين الموحدة لازالت تحتاج إلى تقييم عميق من قبل فريق من الخبراء بما فيهم القانونيون للوقوف على مكامن الصعوبات والضعف ووضع الحلول المقترحة, للدفع بها إلى مرحلة تالية, فما المانع أن نبدأ بالتنازل التدريجي والتطبيق الفعلي للقوانين ذات السمات المشتركة بين دول المجلس كما في الجانب الاقتصادي والتجاري والمالي والصناعي للدفع بقدرة دول المجلس التنافسية إلى الأمام .. كذلك ما المانع من أن نعمل على تقييم التجارب التي مر على تطبيقها فترة زمنية مقنعة كقانون الجمارك الخليجي الموحد, للوقوف على أين نحن من هذه القوانين الموحدة؟ وماذا تم بشأنها منذ تاريخ إقرارها؟ وما نسبة نجاح أو فشل العمل بها؟ وما الفائدة المرجوة من تطبيقها؟ وما مدى توافقها أو تعارضها مع استقرت عليه القوانين الوطنية؟ وما مدى نسبة انسجامها مع التجارب والمعايير الدولية؟ وما هي البدائل لها؟ ففي ظل استعراض القوانين الخليجية الموحدة وتقييمها خصوصاً مشروعات القوانين الرئيسية, وللإنصاف كان لا بد من الإشارة إلى انه يتبادر إلى الذهن بداهة سؤال يخصنا وحدنا في المملكة, وهو أننا نكاد نكون فعليا الدولة الوحيدة في المجلس والتي "لا يوجد" لديها نظام للأحوال الشخصية ولا قانون مدنيا وجنائيا بشكل مقنن في نصوص قانونية, مع أننا شاركنا في دراسة وتطوير وصياغة هذه الأنظمة الموحدة, وهي مشروع ناجح لتقنين القوانين بعناية ضمن إطار أحكام الشريعة الإسلامية السمحة,,فإذا كان هناك أي مبادرة لتقنين نظام الأحوال الشخصية أو القانونين المدني والجنائي، فإننا نتوقع أن تكون تلك القوانين الخليجية الموحدة محل اعتبار واختبار للاستفادة منها طالما انه كان لنا دور في صناعتها حتى لا تكون المسألة مضيعة للجهد والوقت..! فما المانع من الاستفادة من هذه الأنظمة الخليجية الموحدة في المجالات التي تسمح بالاجتهاد وتستدعي هذا التنظيم, متى كان هذا التقنين مقيد ومتوافق مع الثوابت الشرعية المطلقة, فالإصلاح كمنظومة شاملة لان يتأتى إلا بتقنين الأنظمة موضوعية كانت أو إجرائية لأنها هي الركيزة الأساسية لبناء فكرة العمل المؤسسي, الهادف إلى تكريس ثقافة الحقوق والواجبات والمسألة القانونية, وتحقيق العدالة والمساواة, وترسيخ مبدأ المواطنة.. فنحن لدينا تجربة مع تقنين القوانين بشكل ناجح سواء في الجانب الموضوعي, منها على سبيل المثال جرائم التعزير المنظم التي وردت في المرسوم الملكي الكريم رقم (43) وتاريخ 29/11/1377ه وغيره من الأنظمة الجنائية الخاصة التي صدرت بعد ذلك تباعا بشأن مكافحة جرائم التزوير والرشوة والاختلاس والمخدرات وغسل الأموال والجرائم المعلوماتية ونحو ذلك, فهي أي هذه الأنظمة تعد بذاتها نماذج حية للتقنين لتجربة ثرية تجاوز عمرها خمسين عاماً من التطبيق, أما في الجانب الإجرائي فتجربة الأنظمة العدلية ليست ببعيدة عن ارض الواقع مع ما لاقته من نقد واعتراض قبل إقرارها, والتي ما أن صدرت حتى أصبح المعترضون عليها أول من يستشهد بها ... والله من وراء القصد. * أكاديمي قانوني .