في كتابه «تكوين العقل العربي» يشير محمد عابد الجابري إلى أن تصوراتنا عن العصور العربية والإسلامية المبكرة، هي مستندة بشكل كبير على مرحلة عصر التدوين العباسي، ذلك أن «صورة العصر الجاهلي، وصورة صدر الإسلام، والقسم الأعظم من العصر الأموي، إنما نسجتها خيوط منبعثة من عصر التدوين، هي نفسها الخيوط التي نسجت صورة ما بعد عصر التدوين، وليس العقل العربي في واقع الأمر شيئاً آخر غير هذه الخيوط بالذات، التي امتدت إلى ما قبل فصنعت صورته في الوعي العربي، وامتدت لتصنع الواقع الفكري الثقافي العام في الثقافة العربية». يلمح الجابري إلى أن مشروع التدوين الكبير الذي امتد وتوسع في العصر العباسي قد تجاهل الحديث عن الحركة العلمية في العصر الأموي، وأغفل المؤلفات والمصنفات العربية المبكرة التي سبقت الحقبة العباسية «وتكفي الإشارة هنا إلى المؤلفات العديدة التي يذكرها مؤرخو الفرق والطبقات لواصل بن عطاء المتوفى سنة 131ه، وهي مؤلفات يذكر هؤلاء أنهم اطلعوا عليها، مما يؤكد وجودها الفعلي. من جهة أخرى هناك إجماع من طرف المؤرخين لعلوم القدماء أن ترجمة (علوم الأوائل) بدأت مع الأمير الأموي خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، ولعل كيمياء جابر بن حيان هي امتداد للعمل الذي دشنه خالد بن يزيد، كما تنسب المراجع إلى عمر بن عبدالعزيز إذاعة كتاب في الطب كان قد ترجم من السريانية إلى العربية». إن محاولة مراجعة التصورات الكبرى التي تشكلت في عصر التدوين العباسي، أمر شديد التعقيد والصعوبة، ذلك أن أقدم كتب عربية بين أيدينا اليوم تعود إلى ذلك العهد، وهي كتب موسوعية كبرى، ومصنفات علمية جليلة ناضجة، مستواها العلمي الكبير يدفع إلى التساؤل هل صنف هؤلاء العلماء مؤلفاتهم من الذاكرة؟ وتلقوا هذه الأخبار والروايات من رواة حفظوها في صدورهم؟ أم أن أنهم نقلوها من كتب ومؤلفات كانت موجودة في زمانهم؟ ورغم أن المؤشرات والدلائل تكشف لنا أن هؤلاء المصنفين الكبار الأوائل في العصر العباسي قد اعتمدوا في تأليف كتبهم هذه على كتب من سبقهم، إلا أن المعضلة التي تواجه الباحث هو فقدان الكتب الأولى وضياعها، وهو الأمر الذي يساهم بشكل كبير في صعوبة الوصول إلى رأي قاطع وحاسم في هذه المسألة. وفي ذلك يشير الدكتور إبراهيم الشتوي في رأي له حول «عصر التدوين» أن «الغموض عن عصر التدوين يلف كثيرا من أخباره، فمصادرنا عنه معتمدة بالدرجة الأولى على الكتب التي ورثناها عن القدماء سواء كانت هذه الكتب قد ألفت في مراحل مبكرة منه، مثل كتاب سيبويه، ومالك، والشافعي، والجاحظ، أو كانت مؤلفة في زمن متأخر كالقرن السابع، وما تلاه، فالكتب التي اعتمد عليها أولئك في تأليف كتبهم غير موجودة، وليس هناك ما يدل على أنهم كتبوها معتمدين على الذاكرة، وإذا صح هذا في كتب القرن الثاني، فلا يصح في كتب القرون المتأخرة. والذي يزيد الأمر صعوبة أن الحديث عن ضياع كتب التراث، وإحراقها حينًا، أو تمزيقها وإلقائها في النهر حينا آخر يجعلنا نقف مكتوفي الأيدي، أمام ما يرد لدينا من أخبار، ومعلومات عن ذلك العصر، وعما كتب فيه من مؤلفات». إذن نحن بحاجة إلى نعيد النظر في كثير من التصورات التي ورثناها عن العصر العباسي. أولها أن التدوين كان فيه، وأن كل ما كان لدى العلماء قبله كانت روايات شفوية، يحملها العلماء والرواة في صدورهم، وهي حقيقة تزعزعها الروايات الأخرى التي تقضي أن العرب عرفوا الكتابة في مرحلة متقدمة من حياتهم الحضارية، فقد جاءت مرويات كثيرة تدل على أن الكتابة كانت عادة لدى العرب قبل الإسلام، وأنهم كانوا يدونون ما يرونه محتاجًا لذلك. (انظر: الشتوي، عصر التدوين، صحيفة المدينة). إن الكثير من الاكتشافات الأثرية اليوم بدأت تزيح الستار شيئاً فشيئاً عن هذا الغموض، بل إن النقوش المنتشرة اليوم في الجزيرة العربية، التي تعود إلى عصر ما قبل الإسلام تكشف لنا أن العرب القدماء كانوا أمة كتابة وخط، فحين ترى تلك النقوش وقد كتبت بخطوط واضحة، وبلغة راقية مميزة، يتكشف لك أن العرب منذ القدم كانت أمة علم وكتابة، وليس كما يُشاع أنهم شعب «أمي» لم يعرفوا الكتابة والتدوين إلا بعد الاختلاط بالشعوب الأخرى بعد الإسلام. الحقيقة أن هذه النظرية الشائعة ربما تضخمت في ظل النزاع بين الثقافة العربية الأصيلة، والثقافة الفارسية، فنشط التيار الشعوبي في الحط من شأن العرب ومستواهم العلمي والثقافي، ووصمهم بأنهم «بدو، جهلة، جفاة، رعاة» لم يتعلموا العلم، ولم يتعرفوا على الكتب والتدوين إلا بعد احتكاكهم بالفرس والأمم الأخرى، وتلك شائعة تراكمت على مر القرون حتى يخيل لكثير من أبناء العرب أنفسهم أنها حقيقة عنهم! ويذهب المؤرخ وعالم الآثار الدكتور سليمان الذييب إلى أن إنسان الجزيرة العربية منذ آلاف السنين كان متعلماً يتقن القراءة والكتابة، وليس كما يشاع عن هذه المنطقة أن «العلم كان فيها مفقوداً»، وفي ذلك يقول الذييب: «ميزة النقوش في المملكة العربية السعودية والجزيرة العربية عموماً أنها من الإنسان نفسه، نقوش فردية، وليست نقوشاً مؤسسية أو رسمية، فهي نقوش يكتبها الإنسان البسيط، يعبر عن أحاسيسه ومشاعره مباشرة، لذلك هي أصدق عند الباحث من غيرها، وهذا يدل دلالة قاطعة أن القراءة والكتابة كانت شائعة في الجزيرة العربية منذ آلاف السنين، فالفرد البسيط الذي يكتب هذه النقوش هو يكشف لنا أنه متعلم يتقن الكتابة والقراءة.. ونحن نجد هذه النقوش منتشرة في كافة أصقاع الجزيرة العربية من شمالها إلى جنوبها، مما يعطينا دلالات مهمة أن المجتمع في ذلك الوقت كان متعلماً». إن شيوع الكتابة والنقوش جعلت من شبه الجزيرة العربية أغنى المناطق في العالم من حيث الكتابات القديمة المتنوعة - كما يؤكد الذييب- ف«النقش الثمودي من أكثر النقوش الموجودة في المملكة، والتي تشمل الثمودي التيمائي والنجدي والحجازي والتبوكي». إن كثيراً من الشواهد والأخبار المبثوثة في الكتب تبين لنا عن حضور واضح للكتابة والتدوين بشكل مبكر عند العرب، فقد ذكر أهل الأخبار «أن قوماً من أهل يثرب من الأوس والخزرج، كانوا يكتبون ويقرؤون عند ظهور الإسلام، ذكروا فيهم: سعد بن زرارة، والمنذر بن عمرو، وأُبي بن كعب، وزيد بن ثابت، وكان يكتب بالكتابات العربية والعبرية والسريانية، ورافع بن مالك، وأسيد بن حُضير، ومعن بن عدي البلوي، وأبو عبس بن كثير، وأوس بن خولى، وبشير بن سعيد، وسعد بن عبادة، والربيع بن زياد العبسي، وعبدالرحمن بن جبر، وعبدالله بن أُبي، وسعد بن الربيع». ومن جملة من كان يكتب قبل الإسلام عمرو بن عمرو بن عدس. وذكر ابن النديم في «الفهرست» أن أسيد بن أبي العيص كان من كُتّاب العرب، وذكر أنه كان في خزانة المأمون كتاب بخط عبدالمطلب بن هاشم في جلد أدم، فيه ذكر حق عبدالمطلب من أهل مكة على فلان بن فلان الحميري. وورد أن عدداً من الشعراء قبل الإسلام كانوا يكتبون ويقرؤون، وكان منهم من إذا نظم شعراً دوّنه ثم ظل يعمل في إصلاحه وتنقيحه وتحكيك ما نظمه إلى أن يرضى عنه؛ فينشده الناس. كما ورد ذكر لعدد من أشراف العرب ممن كانوا يكتبون ويقرأون منهم سويد بن الصامت الأوسي، صاحب «مجلة لقمان»، والزبرقان بن بدر، وكعب بن مالك الأنصاري، وكعب بن زهير، والربيع بن زياد العبسي، وغيرهم.