من أكثر القضايا التي شغلت حيزًا كبيرًا في سجالات الفكر العربي المعاصر حول التراث الإسلامي هي مسألة التدوين، أو ما يطلق عليها «عصر التدوين في الإسلام»، ويقصد بها تلك الفترة التي بدأ فيها تدوين المصنفات والمؤلفات في العلوم والمعارف، وجمع الحديث، والتفسير، وتدوين التاريخ، ويذهب كثيرون إلى أن هذه المرحلة بدأت في منتصف القرن الثاني الهجري؛ أي في العصر العباسي. كان من لوازم هذا الرأي الشائع أن تعرضت المرحلة العربية السابقة لما قبل العصر العباسي لكثير من الغموض والتشوش، وربما الإهمال والتجاهل، فانتشرت آراء تذهب إلى أن العرب لم يعرفوا الكتابة والمؤلفات، ولم تظهر لديهم الترجمة، والكتب، والمكتبات إلا في العصر العباسي بعد احتكاكهم بالأمم والثقافات الأخرى، في حين أن الكتب كانت مهجورة مجهولة في العصر الراشدي والأموي، وكان عمادهم واعتمادهم على الحفظ والروايات الشفهية. لكن.. أحقًا لم يعرف العرب التأليف والتصنيف إلا بعد قرنين من ظهور الإسلام؟ هل كانت الكتب والمؤلفات مجهولة لا وجود لها في عصر صدر الإسلام الراشدي والأموي؟ وهل الحالة الثقافية العربية المبكرة تعتمد فقط على الأسلوب الشفوي؟ إن عددًا من الدراسات العلمية الحديثة بدأت تقف بقوة ضد هذه «السردية الكلاسيكية» حول تاريخ التدوين في الإسلام، حيث تتكشف الكثير من الشواهد والمؤشرات المثيرة التي تقدم لنا إضاءات لافتة حول حقيقة الحركة العلمية المبكرة عند العرب، وأصالتها لديهم قبل أن يساهم فيها أبناء الأقوام والأمم المختلفة التي انضوت تحت لواء الحضارة الإسلامية. هذا الأمر دفع الباحث اللبناني الأمريكي جورج صليبا في كتابه «العلوم الإسلامية وقيام النهضة الأوروبية»، إلى نقد هذه السردية الشائعة، بل اتجه إلى القول بأن عصر النهضة العلمية، وبيت الحكمة الحقيقي كان في العصر الأموي، وليس في عهد هارون الرشيد ولا المأمون، فنحن حين نتأمل الترجمات العلمية في العصر العباسي، لا يمكن أن نقتنع بأن هذا العمل المتقن في الترجمة والتصنيف قد ولد فجأة، أو نتيجة حلم خليفة طموح، بل هي حركة علمية منظمة بدأت منذ وقت مبكر، وخاصة في ظل حركة التعريب الكبرى التي أطلقها الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان، وتوالت الترجمات والمصنفات التي استمرت كنتيجة طبيعة لهذا العمل المؤسسي الذي انتشر أثره بسرعة هائلة في المجتمعات الإسلامية. ومن المثير حقًا حين نجد من الشواهد ما يؤكد أن أول بيت للحكمة عرفه العرب والمسلمون ليس بيت الحكمة العباسي، بل «بيت الحكمة الأموي»، فقد أنشأ الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان (ت60ه) أول مركز علمي ضخم في الحضارة الإسلامية، أصبح منارة للترجمة والتصنيف، وحفظ الكتب والمخطوطات، والمؤلفات والترجمات النفيسة، وسمي حينها «بيت الحكمة». ولننظر هنا إلى كلام المؤرخ والمحقق السوري يوسف العش، في كتابه النفيس «دور الكتب العربية العامة وشبه العامة لبلاد العراق والشام ومصر في العصر الوسيط»، حيث يقول: أول بيت من بيوت الحكمة عرفناه كان لمعاوية الأول، كما بين عثمان بن سعيد الدارمي، الذي قال: يُذكر أنه كان لمعاوية بن أبي سفيان بيت يسمى الحكمة، يحفظ فيه الكتب والروايات. ويذكر المسعودي في وصفه للجدول اليومي لمعاوية: «ينام ثلث الليل، ثم يقوم فيقعد، ويحضر الدفاتر فيها سير الملوك وأخبارها، والحروب والمكايد، فيقرأ ذلك عليه غلمان مرتبون، وقد وكلوا بحفظها وقراءتها». يقول العش: ويظهر أن معاوية كان يستأجر مستخدمين ليحفظوا الكتب التي جمعها ويقرؤونها عليه.. وكانت هذه الخزانة تتلقى مؤلفات مثل كتاب عبيد بن شربة الذي وضعه بطلب من معاوية، وقد كان بيت الحكمة زمن هذا الخليفة مؤسسة واضحة الصورة. ثم انتقلت هذه المكتبة إلى وارثيه، فآلت إلى خالد بن يزيد بن معاوية (90ه)، الذي كان مولعًا بالكتب، فقام بحفظ بيت الحكمة الأموي، وأولاه عناية خاصة، لأجل ذلك قرر كثير من المؤرخين أن خالد بن يزيد هو أول من أنشأ خزانة عامة للكتب في الإسلام. ويشير علي النملة في دراسة له حول الترجمة في العصر الأموي أن حركة النقل والترجمة بدأت في هذا العصر مع الخليفة الأُموي معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما، وكان محبًّا للاطلاع على سياسات الملوك وسيرهم، وكان لديه مَن يَنسخون له الكتب التي يبدو أنها كانت مترجمة عن اللغات اليونانية واللاتينية والصينيَّة، على إثر تسلُّمه لهدية من ملك الصين كانت كتابًا تُرجم في عهده، أو بُعيد عهده. ثم تتواتر الروايات حول خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي أطلَّ على الخلافة ثلاثة أشهر فقط، ثم آثر التفرُّغ للعلم، فكان مولعًا بالصنعة (الكيمياء)، وقد ورث عن جدِّه معاوية بن أبي سفيان مكتبة غنيَّة، كما تلقَّى علوم الأوائل على معلمه ماريوحنا الدمشقي، ويسمَّى أحيانًا: مريانوس، وقد ترجم مريانوس لخالد بن يزيد، وترجم له أيضًا راهب آخر عن اليونانية يقال له: اصطفن الحصري، كتبًا أخرى. وتُرجمت له بعض الكتب عن الفارسية على يد جبلة بن سالم، وعُد من أساتذته يحيى النحوي. وربما يكون أقدم نص أشار لاهتمام خالد بالعلوم والكتب، هو الذي يرد في كتاب «البيان والتبيين» للجاحظ، حيث ذكر أن خالدًا كان أول من تُرجمت له كتب النجوم والطب والكيمياء، ويذكر النديم في «الفهرست» أن «خالدًا كانت له محبة للعلوم فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان ممن كان ينزل مصر ويجيد العربية وأمرهم بنقل الكتب عن الصنعة من اللسان اليوناني والقبطي إلى اللسان العربي، وكان هذا أول نقل في الإسلام من لغة إلى لغة». ثم اكتملت هذه المكتبة بشكل نهائي في خلافة الوليد بن عبد الملك (ت96ه) فكان لها خازن، وناسخ ماهر، وكان لكليهما لقب معين، كما ترجمت كتب عديدة، اغتنت منها مكتبات الأمويين كثيرًا، ويروى أن مكتبة الوليد الثاني (ت125ه) قد حوت من الدفاتر والكتب ما يُحمل على دواب عديدة، وهي الدفاتر التي تضم في معظمها أحاديث شريفة، وروايات ابن شهاب الزهري. لأجل ذلك يقول المؤرخ يوسف العش: «كانت المكتبات الأموية مزودة بكتب الحديث الشريف، والشعر، والتاريخ والنجوم، والطب، والكيمياء، وبعض الكتب الفلسفية، وكان أمناء المكتبات والنساخ يعينون فيها ليغذوها من إنتاجهم، وربما كان المترجمون أنفسهم يعملون فيها، ويغنونها بأعمالهم». إن هذه الجهود العلمية التي بدأت بشكل مؤسسي في عهد الخليفة الأموي الأول معاوية بن أبي سفيان، أثمرت بشكل واضح في تاريخ الحضارة الإسلامية، وآتت أكلها يانعة في القرون اللاحقة.