هذه المقالة نشرتها "السياسة الاسبوعية" المصرية في عددها رقم 59 الصادر بتاريخ 23 نيسان ابريل 1927، وهي تتناول معلومات كان المستشرق الألماني الدكتور مايرهوف القاها في تلك الفترة وتتعلق بالانجازات العربية في مجال الطب، خصوصاً طب العيون. والمعلومات الواردة في هذه المقالة ما تزال تتمتع براهنية عالية وتلقي اضواء مهمة على المخطوطات العربية والاسلامية العلمية. تدل نقوش البردى التي اكتشفها العلامة الاثري ايبرس، التي ترجع معرفتنا لتاريخ مصر وعادات قدماء المصريين الى نحو ثلاثة آلاف وأربعمائة سنة، على ان التهاب العين الحاد والشعرة كانا ذائعين في مصر في العصر الذي دونت فيه هذه النقوش. وقد دون هذه النقوش كهنة يعرفون الطب في عهد الأسرة الثامنة عشرة وذلك بالرجوع الى كتاب او كتب قديمة. ويقول الدكتور هوري في رسالته عن امحوتب، وهو وزير وطبيب نبغ في عهد الأسرة الثالثة، ان بعض النقوش التي وجدت في بردى ايبرس ترجع الى الأسرة الأولى. وهي مجموعة من الوصفات عددها سبعمائة ذُكر فيها كثير من أمراض العين. وقد وجدت في قبور الامبراطورية الجديدة آنية صغيرة تحوي اوكسيد النحاس والزنك والكبريت. وكان المزيج الذي تحتويه هذه الآنية يستعمل لتسويد اهداب العين، وكذلك لمعالجة الالتهاب. وقد كان يستعمل منذ أقدم العصور. وهو ما زال يستعمل حتى اليوم باسم "الكحل" وكان يستعمل مسحوق اصفر قبل الامبراطورية القديمة لدهان العين، ولكن هذه المادة كانت عتيقة على ما يظهر حتى ايام بناء الاهرامات. أبقراط في القرن الخامس قبل الميلاد ولد أبقراط في جزيرة كوس، وهو الذي استخلص علم الطب من الفروض والأساطير القديمة، وكان يجيد معرفة مرض الشعرة. وفي نهاية القرن الرابع قبل الميلاد كان الرمد خاصة معروفا في الاسكندرية حيث كتب هيروفيل - الذي عاش عصر بطليموس سوتو - رسالة عن العين ضاعت لسوء الطالع. وفي نحو ذلك الحين درس أوقليد عناصر النظارات الأولى في الاسكندرية ايضاً. وفي اوائل القرن الثاني قبل الميلاد زاول هليودور طب العين في الاسكندرية وترك لنا نبذة من مؤلف كتبه عن جراحة العيون وعلاجات الرمد. وفي عهد نيرون، في القرن الأول للميلاد، عاش الطبيب سلسوس الشهير في رومه وكتبه عن الالتهاب ومرض الشعرة وعمليات غشاوة العين. والظاهر ان مؤلفات كبار الاطباء اليونان في العهد الروماني لم تعن كثيراً بالرمد. على انها كانت مستقي لبولص الاجيني الذي عاش في الاسكندرية في القرن السابع في وضع ثلاثة فصول عن الرمد في كتابه عن الطب. وهو يذكر مرض الشعرة وعلاجه بواسطة العملية المعروفة حتى اليوم في قرى مصر وهي عبارة عن اقتطاع جزء من جلد الجفن الاعلى. ويقال ان كتباً ثمينة كتبها الجراحون في عهد البطالمة والعهد الروماني قد فقدت في الحرائق التي كانت من آن لآخر تنكب مكتبة الاسكندرية. ولكن ليس هنالك ما يدل على ان معارف الرمد تقدمت كثيراً في القرون الستة التي تلت عهد سلسوس. وقد ألقي ضوء جديد هام على سيرة الآداب الطبية والرمدية العربية في العصور الأولى على يد الدكتور ماكس مايرهوف في مباحث قدمها الى جمعية الرمد المصرية في اجتماعها السنوي الاخير. والدكتور مايرهوف جراح رمدي بارع، له فصول قيمة في فنه يذيعها في النشرات الألمانية والفرنسية والانكليزية. وهو فوق ذلك بحاثة قدير في علوم العرب الأولى، بل هو اكبر حجة في طب العرب بعد العلامة يوليوس هوشبرج. وقد نشر اخيراً في باريس كتاباً عنوانه "العالم الاسلامي" يتضمن كثيراً من المعلومات القيمة عن البلدان الاسلامية. وقد نشر اخيراً فصلاً جديداً تتمة لمباحثه في سيرة الطب عند العرب وردت فيه المعلومات الآتية: عهد الفتح الافريقي تم فتح العرب لشمال افريقيا وغرب آسيا حوالى سنة 700م، وأقام الامويون في ذلك الحين ملكهم في دمشق، وكانوا يعضدون الفنون، ولكن المعارف العلمية كانت تقتصر على اليونانيين في مصر وعلى السريانيين في غرب آسيا. وكان الخليفة العباسي المأمون 813 - 833م أول من اهتم بطب اليونان. وكان للعلوم اليونانية في عصر الاسلام الأول ثلاثة مهاد في الاسكندرية، وفي جنديسابور في جنوب فارس، وفي حران في الجزيرة. وفي حران كان يعيش الصابئة وهم طائفة من عباد النجوم عنوا بترجمة الكتب العلمية اليونانية. ولجأ النصارى النسطوريين الذين كانوا يطاردون في الدولة البيزنطية الى أبعد اطراف الدولة الاسلامية حاملين معهم الكتب العلمية اليونانية. وقد ترجموها بادئ بدء الى السريانية لغة غرب آسيا، ولكنا نجد منذ القرن السابع التراجم العربية لهذه الكتب تزداد شيئاً فشيئاً. وأرسل المأمون الطلاب الى الاسكندرية، والاناضول، وبيزنطة، ليحصلوا على المخطوطات اليونانية بقصد ترجمتها. وكان بعض الطلاب يقومون بالترجمة من اليونانية الى السريانية، والبعض الآخر من السريانية الى العربية اذ كان يتعذر عليهم ان يترجموا من اليونانية الى العربية مباشرة. وأخيراً عثر الاستاذ برجشتراسر من ميونيخ على مخطوط اوحد في جامع اياصوفيا في الاستانة يتكلم عن كل كتب جالينوس. وعنوان هذا المخطوط "رسالة حنين بن اسحاق الى علي بن يحيى". وقد كان حنين هذا عالما نسطورياً وطبيباً شهيراً عاش في العراق حتى حوالى سنة 863م، ودرس في الاسكندرية وجنديسابور، وزار دمشق، ورافق الخليفة المأمون في غزوته للدولة البيزنطية حوالى سنة 830م. وقد سجن بعد ذلك في بغداد سنة 856 وجرد من مكتبته. وهو يقرر في رسالته المذكورة انه كان لجالينوس اكثر من مئة وأربعين مؤلفاً في الطب ترجم هو اكثرها الى السريانية، وترجم ابنه وبعض تلاميذه كثيراً منها الى العربية، ثم يقرر ان بعض المخطوطات اليونانية كانت معيبة ومن اجل ذلك استعان على الترجمة بمقارنة مخطوطات عديدة ببعضها. وقد كان ينحو في الترجمة اسلوباً محدثاً، وقد ترجم ايضاً مؤلفات افلاطون وأرسطو الفلسفية، وترجم رياضيات اوقليد، او ابولونيوس وأرخميدس، ومؤلفات ابقراط الطبية، وكذلك مؤلفات بولص الاجيني، وكذلك التوراة ترجمها لأول مرة الى العربية. ووضع ايضاً قاموساً ضخماً للسريانية والعربية. وألف فوق كل ذلك اكثر من مائة كتاب في الطب والفلسفة. التشريح عند جالينوس والذي يوجد اليوم من مترجمات حنين وتلاميذه الضخمة في المكاتب قليل، ولكن حفظ مع ذلك مخطوط عربي ثمين هو "التشريح" لجالينوس. وقد ضاع نصف نصه اليوناني، ولكن بقيت له ترجمة كاملة بقلم حنين وحبيش. ولم يترك جالينوس مؤلفاً في الرمد، ولكنه ترك كتاباً صغيراً في اعراض امراض العين. وقد اكتشف هوشبرج ترجمة لاتينية لمؤلف وضعه حنين في الرمد، وفي سنة 1908 اكتشف مايرهوف في مكتبة احمد تيمور باشا الخاصة الاصل العربي القديم في نسخة كتبت بعد وفاة حنين بمئة وخمس وعشرين سنة. وحصل مايرهوف ايضاً على نسخة اخرى من هذا الكتاب من لننغراد. ومواده عشرة فصول تبحث في الاعراض النفسية للمخ، والاعراض النفسية للنظر، وصحة العين، وأمراض العين وأسبابها وخواصها وغير ذلك. وحصل مايرهوف في سنة 1925 على صور فوتوغرافية لمخطوطات عربية قديمة في امراض العين وهي: 1 "تغييرات العين" لأبي زكريا يحيى بن مارسويه 777 - 857م. والفصل الثلاثون منه يبحث في عملية ازالة الغشاوة. وقد كتب بلغة سقيمة لعدم تمكن مؤلفه من العربية. 2 "تشريح العين، وتكوينها، وعلاج امراضها" العلامة نسطوري نصراني من شمال الشام هو علي بن ابراهيم بن نختيشة الذي عاش على ما يرجح في اواخر القرن العاشر 3 "تذكرة اطباء العيون" لعلي بن عيسى وهو طبيب عيون نصراني بغدادي، عاصر في القرن التاسع الطبيب العربي الاشهر ابن سينا. ويتفق مايرهوف تماماً مع هوشبرج في القول بأنه لا يوجد في الرمد مؤلف أثمن منه كتب في الغرب او الشرق حتى بدء القرن الثامن عشر 4 "الاختبار في معالجة امراض العيون" للموصلي، وهو أول مؤلف مسلم من اطباء العيون. وقد عاش في القاهرة في اوائل القرن الحادي عشر. والنسخة الوحيدة الكاملة من هذا المؤلف توجد في مكتبة تيمور باشا بالقاهرة وفيه شرح فريد لطريقة جديدة في ازالة الغشاوة الخفيفة بامتصاص المادة الناعمة بواسطة ابرة مجوفة من الذهب او النحاس. ومما تقدم نرى اي مادة جديدة ثمينة أبرزها مايرهوف الى الضياء. ومما يجدر ذكره ان العلوم العربية الأولى كانت مستقاة من مصادر يونانية، وان المشتغلين بها كانوا من النصارى.