لا تُورث الحكمة، وإن بُنيتْ في صحراء. فالصحراء تدسّ أسرارها في جوفها إذا وصلتها الجُموع ودنا منها الصُنّاع. لا تستريح إلاّ للندّرةِ، والمُخاتلة. نهارُ المدينة الهائلة انتصرَ دونما نِزال، أتربتهُ منعت الطير، وأجبرت المسافر على المُقام في حواشيها الخالية من اللغة. حديث المارّة يشبهُ القار، يقولونهُ بتهذيبٍ أقلّ، ويكتبونهُ دون نقاط وترقيم. نهارٌ حارقٌ، وها عوادمهُ والعمارات تحُولُ دون وميض البشارة. آه.. كلما هبط الليل، رفعتُ رأسي لسهيل، وأغمضتُ عيني؛ لأذهبَ صوب بيتنا على ضفاف وادي لحيفة*، هناك، أسفل الجبل الكبير، على طرف الطفولةِ ورائحة البشام، حيث أناشيد الصخر الهاذية، ومهرجانات العقيق والقطا. شيء ما فقدتهُ في تلك الأنحاء، لا أعرفهُ البتّة، وأجرّهُ خلفي على شكل فراغ يوميّ مُحدّب، وثقيل. في هذه المدينة الحارقة، أسحبهُ كجثّة فارس مهيب. يُوجعني القلب والبراجم، وأجمعُ قوت أولادي بالمشقّة، وبما تبقى من دمي في المساء.. أحملقُ باحثًا عن نجمتي الجنوبيّة. ما إنْ تلمع في عيني حتى أغمضها في خيال وتذكّر. أغمضها؛ كي أعيش ليومٍ آخر. يومٌ، لن أستعدّ فيه لقتال، ولن أدرّب الحدس. سأمضي في المدينة الهائلة بنواميسِ رعاة الإبل المُوسّمة، التي لا يجرؤ عليها أحد. مثلهم في تخوم الريح.. زادي يسير، ووجهتي تُحدّدها رعيّتي. أدخّر الكلام للذئب، وأنامُ في كل فيء بالطريق، منتظرًا إشارة الصحراء للأعزل، أو مسرّة الصدفة الساذجة. * وادي لحيفة: يقعُ في مدينة نجران