منذ أمسكتُ القلم وأنا من أشدّ المدافعين عن نصاعة الصحراء وبراءة فطريّتها الأولى، ومقاومة كل آلة تحاول خدش وجهها الجميل، بل والمحافظة القصوى على عذريّتها الطبيعية الخالدة، بل لا أكاد أبالغ إنْ قلت إنني أغار عليها حتى من الإعمار، باعتبار (أنّ إعمار الصحراء يعني دمارها)، وهنا قد يستغرب البعض انحيازي الكلِّي إلى الصحراء دون المدن الناهضة في بلادنا الجميلة، ولكن قد يزول الاستغراب إنْ قلت بملء الفم، إنّ الصحراء (أمي) ومسقط رأسي ومهدي الأول وطفولتي البكر ومدارج أقدامي وخطواتي الأولى على رملها النقي، وتنسمّت هواءها العذب واستنشقت حتى سمائم رياحها الحارة، وتفيأت ظلال أشجارها الشوكية الشحيحة، وأوقدت أحطابها في ليالي الشتاء القارسة .. وعرفت كائناتها الجميلة سواء أكانت أليفة أو متوحّشة، كاسرة، أو داجنة، فقد عرفت الذئب مثلما عرفت الظبي، وعرفت الضبع مثلما عرفت الأرنب، وعرفت القنفد مثلما عرفت (الجربوع)، وعرفت العقاب مثلما عرفت اليمام، وعرفت الصقر مثلما عرفت القطاه. وجمعت أزهارها لأقدِّمها باقات حبٍّ لحوريّات الصحراء وغزلان البرِّ. واستلهمت منها كلَّ قصائدي ومفرداتي وأخيلتي وصوري ورموزي وإيماءاتي؛ فلِمَ إذن لا أغار على الصحراء، وعلى كل ملامحها الجغرافية كالتلال والجبال والسهول والشعاب والأودية. وما دمت قد ذكرت الأودية فاسمحوا لي أن أنقل لكم حزني الذريع فيما يخص أكبر وادٍ، أو بالأحرى أضخم نهر ميّت كان ينحدر من جبال الحجاز وحتى يصب في شطّ العرب، وأعني بذلك وادي الرمة الذي يجتاز النفود مخترقاً الصحراء عند الباطن ليبتلع وادي فليج، ثم يسير به إلى جبل سنام عند الحدود الكويتية العراقية، حيث يتفرّع هذا الشعيب الهائل - الذي كان نهراً - عن يمين وشمال الجبل، ليلتقي ثانية قبل أن يصب في الشط عند التقائه بالخليج. قد يستغرب بعض القرّاء صفة الموت لدى الأنهار، وأنا أقول لكم إنّ هذا الزمان هو زمان موت الأنهار وفناء الينابيع ونضوب الآبار، نتيجة لجشع الإنسان في إهدار الماء بلا شفقة، فنهر (بردى) قد مات منذ عدة أعوام في الشام ونهر الكلب قد مات منذ عدة أعوام في لبنان، ونهر الأردن قد خنقته إسرائيل حتى الموت، أما بالنسبة للآبار الكبرى فأين (هداج) وأين سلسلة آبار (رماح) وغيرها وغيرها من الآبار. والإنسان لم يكتف بموت الأنهار فقط، بل أخذ يمثِّل بجثثها أبشع تمثيل .. ف(وادي الباطن) مثلاً يتعرّض الآن إلى أبشع تدمير لجثته الهائلة. إذ قامت العديد من (الكسارات) بتحويله إلى حفر هائلة أو تلال من الرمل، تكاد أن تغطي كل مساحته من محافظة حفر الفاطن حتى مثلث الحدود السعودية الكويتية العراقية، وفوق ذلك لم يلتفت إلى هذا التدمير أحد. ولكي أكون منصفاً، فثمة شركات تقوم الآن بردم خنادق حرب الخليج الأولى، وهذا عمل تحمد عليه تلك الشركات.. ولكن من ينقذ الباطن من (مقاولات الباطن) هذا هو السؤال؟!