اعترف مقدماً بأني لا أستطيع التعبير عن كل ما في نفسي حول الموضوع الذي سأكتب عنه، حول الصحراء التي أحبها من قلبي وأفضلها ألف مرة على المدينة وضجيجها وصخبها وأبواقها (المزعجة) التي تقلق راحة الناس.. وهوائها غير العليل ومستنقعاتها، وذلك لأني لا أجيد كتابة المقدمات وتنميق الكلمات، ولكني سأقول ما تيسر بعد رحلات شيقة قمت بها لصحرائنا الحبيبة، في هذا (الربيع) الجميل وهذه السنة المباركة حيث اكتست الأرض بالخضرة ولبست زينتها وأنبتت خيراتها متعددة الألوان والأشكال والطعم. تلك الخيرات التي لا توجد في غير هذه الجزيرة التي تغنى الشعراء قديما وحديثا بنباتها وهوائها وصباها وشيحها وقيصومها وخزاماها، والتي يحن إليها أهلها كلما بعدوا عنها أو حال بينهم وبينها حائل، وما أجمل الصحراء هذه الأيام حيث تشم روائح الزهور الذكية من كل جانب ومن كل نوع، ويتوفر الثلاثي الجميل في هذه الحياة (الماء والخضرة والوجه الحسن) وسامح الله بعض الخبثاء الذي علق مرة بقوله (الماء والخضرة والوجه الخشن) بالشين يقصد ان العنصر الثالث الذي يجب ان يكون (الفرست) غير موجود. وتتذوق الحليب اللذيذ وخاصة حليب الابل (الخلفات) التي ترعى تلك الرياض الغناء التي تختلف عليك أسماء نباتاتها وتحتاج الى خبير في ذلك من (الأجداد) حسب تعبير (اليمامى) أو من المعنيين بمعرفة أسماء تلك النباتات وتوضيحها للجيل الجديد الذي لم يعد يعرف عنها شيئاً، وأولئك قلة وعلى رأسهم الشيخ عبد الله بن خميس الذي لا أذيع سراً إذا (اغتبته) وقلت انه يعد كتاباً عن نباتات الجزيرة أرجو أن يكون ميلاده قريبا. أعود إلى الموضوع وأقول انك بعد التمتع بتلك المناظر الخلابة والروائح العطرة تشرب من حليب الابل بطعمه اللذيذ وبياضه الشديد ورغوته العالية، وحليب الابل مفيد للصحة كامل الغذاء حتى أن بعض البدو لا يذوق الطعام أو الشراب بل يفضل الحليب عليهما ويكتفي به ولما رأيت حليب (الخلفات) في إناء معدني أبيض (بياض في بياض) وأصبحا ناصعي البياض، تذكرت أبيات الشعر التي يتغنى بها أبناء الصحراء في (الهجين) وهو نوع من الفنون الشعبية الجميلة (الفلكلور) والتي يصف فيها الشاعر (ابن حصيص) ريق (سارة) بأنه كسكر في اناء أبيض (غضارة).. اسمعه يقول من قصيدة طويلة قيل انها تبلغ ألف بيت: هيض ابن حصيص في تالي نهاره ألف قاف من ضميره مدلجات يا وجودي وجد مكسر الجباره ماخذ تسعين ليل ما يبات أو وجد اللي فضا الحاكم جداره وخذ ماله والحريم مسلبات عقب ما هو تاجر وراعى عماره راح فلاح وأموره هينات يا نديبي وارتحل فوق ناب الفقاره اركى وحبال كوره كايفات اركى يرعى دواوير القراره ماهواه الشد من عشر سنوات ما ذكر جار ذبح بالحب جاره بالمبيسم والثنايا المرهفات عذبتني بالهوى والحب ساره عيفتني من عماهيج البنات راس ساره ذيل شقراء وسط غاره في نهار الكون قدم الأولات والثنايا قحويان في زباره نافل نبته على كل النبات والنهيد زبيدي في دعث قاره في محير الماء قرار مصلعات حالف ما اسلى ولا انسى حب ساره كود أهل شقرا يخلون الصلاة المطوع لو يشوف خدود سارة ضيع المكتوب وقران الصلاة ريق ساره كنه شكر في غضاره أو حليب بكار عرب مسمنات والبيت الأخير هو بيت القصيد: أما طعام الافطار في الصحراء (البر) فهو (قرص الجمر) اللذيذ المفيد الذي أشار إليه الحيطيئة من قصيدة له بعنوان (الصياد الكريم) - الذئب: وطاوي ثلاث عاصب البطن مرمل ببيداء لم يعرف بها ساكن رسما إلى أن قال: حفاة عراة ما اغتذوا خبر ملة ولا عرفوا للبر مذ خلقوا طعما والذي هو أنفع وأحسن بكثير من (خبز الزيود) الذي لا يتعدى نفعه (سد فراغ) المعدة، وذلك القرص يحتاج إلى خبرة ومهارة وفن أيضا، إضافة الى المتطلبات الضرورية الأخرى وهي الرمل الذي يصبح ملة (بفتح الميم) والحطب والسمن البري وسكر أو تمر، وإذا توفر له ما ذكرت فإنه يخشى على أصابعك من أن تلتهمها على أثره، واعتبر نفسي الآن من الخبراء فيه بعد أن نجحت في اعداده في الأيام الماضية بشهادة زملاء الرحلة (وأفكر في فتح مكتب استشاري لهذا الغرض). ولا أنسى (الفقع) الكمأة وحلاوته والنشوة الغامرة التي تصاحب حفره والبحث عنه واخراجه من الأرض، وقبل ذلك منظر (القلفوعة) أي طبقة الأرض التي فوقه إذا تشققت واحدودبت وأوشكت على السقوط يميناً وشمالاً ليبرز الفقع (ويصلع).. أما أكله وخاصة مع المرقوق والقرصان والأرز (في بعض الأقوال) فحدث ولا حرج، أكله شهية نادرة ليت من يسخر الآن في قرارة نفسه من هذا الكلام يجربه واني متأكد انه سيغير رأيه. وفي الدهناء تشاهد مناظر خلابة تبهج العين وتشرح الصدر وتنسي الإنسان ولو للحظات هموم هذه الدنيا (وغرابيلها) فكثبان الرمال كأنها الجبال تتخللها الأشجار الخضراء من كل نوع ولون ومما لذ وطاب لابن عمنا الحيوان - طبعا - ولا مانع من أن يأكل الانسان بعضاً منها كبصل الصحراء والعرجون والقرقاص والذعاليق والبقراء والبسباس... الخ وفي هذه الصحراء الجميلة وبين الغدران توجد أنواع من الطيور والحيوانات فالضب لمن يستسيغ أكله والذين يصفون صعوبة حفر جحره بقولهم (إن كانك فسقان فاحفر ضب والا جربوع براس عدابه) والجربوع (اليربوع) الذي يتأسف لقصر يديه ويقول (لو يدي طول رجلي ما لحقتني بنت عبي) وهو الذي يحفر جحره بطريقة عجيبة بها كثير من الذكاء والفطنة والدهاء فهو يجعل في طرف الجحر بابا (خلفياً) خفياً يبقى بينه وبين سطح الأرض قشرة رقيقة، فإذا داهمه خطر ثقب تلك القشرة وولى هارباً ومن تلك الطيور (الكروان) بتسكين الكاف وضم الراء وتشديد الواو وأحسبه الكروان بفتح الكاف والراء والواو.. والدرجلان والنجم والحمام والبسط (البش) والقطا الذي يقول فيه الشاعر: بكيت على سرب القطا إذ مررن بي فقلت ومثلي بالبكاء جدير أسرب القطا هل من يعير جناحه لعلي إلى من قد هويت أطير وفي الصمان رايت - لأول مرة - الدحول واحدها (دحل) وهي شقوق في الأرض تؤدي إلى مغارات وأودية وأشجار ومياه في باطن الأرض، وللناس مع هذه الدحول قصص وقصص حين يضطرون في الصيف الى ولوجها بحثاً عن الماء، فبعضهم يفقد داخلها وبعضهم داهمه السيل فمات غرقا ويقال ان أعرابيا نزل في (الدحل) لاخراج الماء فضل داخله ومكث أياماً ثم ان رفيقه لما أراد البحث عنه عمد الى ناقة فنحرها واتخذ سحمها سراجا له بعد أن لفه على الخرق حتى وجد صاحبه وقد تغير لون جلده إلى بياض شديد وقد هممت بالنزول في الدحل ولكنني ما كدت أبدأ حتى شاهدت (سلب) جلد حية بين الصخور فعدت أدراجي ووليت هارباً لا ألوي على شيء. وحبذا لو بحثت الجهات المختصة وأحسبها جامعة الرياض هذه الظاهرة - الدحول - ودرستها وقامت باحصاء تلك الدحول (المغارات) واكتشاف عجائبها. بعد هذه المقدمة (اللطيفة) إن شاء الله (على لغة بعض المذيعين) أورد نزراً يسيراً مما قاله الشعراء في نجد وصباها وشوقهم إليها وحنينهم الى مرابعها وما بها من شيح وخزامى وعرار ورند وغضى وقيصوم ورمث... وغيره. قال الصمه بن عبد الله القشيري: قفا ودعا نجدا ومن حل بالحمى وقل لنجد عندنا ان يودعا بنفسي تلك الأرض ما أطيب الربى وما أجمل المصطاف والمتربعا وأذكر أيام الحمى ثم انثنى على كبدي من خشية ان يتصدعا أقول لصاحبي والعيس تهوى بنا بين المنيفة فالضمار تمتع من شميم عرار نجد فما بعد العشية من عرار الا يا حبذا نفحات نجد ويرا روضه بعد القطار وإني أحب الرمث من أرض عاقل وصوت القطا في الطل والمطر الضرب الشريف الرضي أو ما شممت بذي الابارق نفحة خلصت الى كبد الفتى المشتاق فجنى نسيم الشيح من نجد له حرق الحشا وتحلب الآماق اها على نفحات نجد انها رسل الهوى وأدلة الاشواق وله : شممت بنجد شيحة حاجرية فأمطرتها دمعي وأفرشتها خدي فيا حبذا نجد وطيب ترابه إذا هضبته بالعشي هواضبه واستلم لا أنساه ما عشت ساعة وما انجاب ليل عن نهار يعاقبه وقال أعرابي: أكرر طرفي نحو نجد وانني غليه وان لم يدرك الطرف انظر حنيناً الى أرض كأن ترابها إذا مطرت عود ومسك وعنبر بلاد كأن الاقحوان بروضة ونور الاقاحي وشي برد محبر أحن الى أرض الحجاز وحاجتي خيام بنجد دونها الطرف يقصر وما نظري من نحو نجد بنافعي أجل لا ولكني الى ذاك أنظر رأيت بروقا داعيات الى الهوى فبشرت نفسي ان نجدا أشيمها إذا ذكر الأوطان عندي ذكرته وبشرت نفسي ان نجدا أقيمها الا حبذا نجد ومجرى جنوبه إذا طاب من برد العشى نسيمها أجدك لا ينسيك نجدا واهله عياطل دنيا قد تولى نعيمها فيا لائمي في حب نجد وأهله أصابك بالأمر المهم مصيب ألام على نجد وأبكي صبابة رويدك يا دمعي ويا عاذلي رفقا فلى بالحمى من لا أطيق فراقه به يسعد الواشي ولكنني أشقى حننت الى وادي الغضا سقى الغضا حيا كل غاد من سحاب ورائح أكر إليه نظرة بعد نظرة بطرف الى نجد على الناس طامح ألا يا صبا نجد متى هجت من نجد فقد زادني مسراك وجدا على وجد سقى الله نجد والمقيمين بأرضها سحابا طوالا خاليات من الرعد أحن الى نجد فيا ليت انني سقيت على سلوانة من هوى نجد الا حبذا نجد وطيب ترابه ورواحه ان كان نجد على العهد الا ليت شعري عن عويرضي قبا لطول التنائي هل تغيرتا بعدي وعن أقحوان الرمل ما هو فاعل إذا هو أمسى ليلة بثرى جعد وعن علويات الرياح إذا جرت بريح الخزامى هل تهب على نجد أصاح ألا هل من سبيل الى نجد وريح الخزامى غضة من ثرى جعد وهل لليالينا بذي الرمث رجعة فتشفى جوى الأحزان من لاعج الوجد سقى الله نجدا والسلام على نجد ويا حبذا نجد على القرب والبعد خذا من صبا نجد أمانا لقلبه فقد كاد رياها يطير بلبه يا ساكني نجد أما من رحمة لا سير ألف لا يريد سراحا هلا بعثتم للمشوق تحية في طي صافنة الرياح رواحا حيث الحمى وطني وسكان الغضا سكني ووردي الماء فيه مباحا وأهيله أربى وظل نخيله طربى ورملة وادييه مراحا النجا النجا من أرض نجد قبل أن يعلق الفؤاد بوجد ان ذاك الثرى لينبت شوقا في حشا ميت اللبانات صلد كم خلي غدا اليه وأمسى وهو يهذي بعلوة أو بنهد وظباء فيه تلاقي الموالي والمعادي من الجمال بجند بشتيت من المباسم يغري وسقام من المحاجر يعدي وبنات لولا اللطافة ظنت لجناياتها براثن أسد وحديث إذا سمعناه لم ندر بخمر نضحننا أم بشهد أنفت من براقع الخز والقز