يكفي من المواطنة انطواء القلب على نية صالحة لهذا الوطن، ورغبة صادقة في الدفاع عنه بكل ما أوتي الإنسان من وسيلة، ومحبة قادته وحسن الظن بهم وحماية أعراضهم والثقة بهم وبتدبيرهم، وقبل ذلك وبعده الدعاء لهم في ظهر الغيب بالتوفيق والحفظ والتسديد، تلكم هي المواطنة الصالحة، من حازها فقد حاز شرف المواطنة واحتوى جوهرها، وما زاد على ذلك فهو فضل ونفل. إن هذه المعاني الشريفة هي ثوابت المواطنة وقطعياتها؛ لا تصح مواطنة مواطن ولا مواطنة إلا بها، ولا يجوز أن نستعيض عنها بشعار نردده أو بلباس نلبسه، أو بمقال في صحيفة أو موقع، أو محاضرة في مسجد أو منتدى. كل هذا لا يغني عن المواطنة شيئاً إذا فرغ القلب من معنى المواطنة واستحقاقها. وبهذه المعاني العظيمة رسخ المواطنون الأوائل معنى المواطنة الحقيقي وحافظوا على كيان هذا الوطن واستقراره، وقدموا أرواحهم وأموالهم ليصل إلينا هذا الوطن موحداً مستقراً آمناً وقد فعلوا وبلغوا، فلم يقبضهم الله إلى جواره إلا وقد رأوا هذا الوطن وهو على خير ما تكون عليه الأوطان، تحفه عناية الله في أمن وارف وطعام وافر وقلوب مجتمعة، وأرواح متآلفة، فعسى الله أن يغفر لهم ويرحمهم ويجازيهم عن هذا الوطن وأهله خير ما يجازي محسنا على إحسانه.. إن أصدق معاني الحب للوطن أن تحب الوطن وقادته لا تحبهم إلا لله، لا ترجو نوالاً ولا تخاف سلطاناً، إنما هي محبة خالصة عمادها الأمر الرباني بطاعة ولاة الأمور (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) والهدي النبوي (اسمعوا واطيعوا). لقد درج على ثرى هذا الوطن رجال ونساء كثير فمضوا وعبروا دون أن يعرفهم أحد، فلم يخلد اسمهم في جريدة أو موقع، ولم يقرأوا يوماً كتابا عن الوطن أو يتفقهوا مرة في معنى المواطنة، وربما لم يتقلدوا -طيلة حياتهم- وظيفة أو منصبا، ولم يكسبوا جاها ومنزلة، لكنهم مع ذلك كانوا أكمل الناس مواطنة وأصدقهم محبة، إذا أغلق الواحد منهم عليه باب بيته ورأى أبناءه حوله مجتمعين في أمن واستقرار لا يخاف إلا الله رفع يديه إلى السماء بأن يحفظ هذا الوطن ورجاله وقادته، وأن يغفر لمؤسس هذا الكيان وبانيه، ثم مسح وجهه بيديه ومضى إلى شأنه دون أن يكتب عنه أحد تغريدة أو يلتقط له صورة.. ومثل هذا ذلك الموظف أو المسؤول الذي أدى الأمانة وأوفى بالعهد ورعى الذمة فقام بما كلف به خير قيام، همه فقط أن يرضى الله عنه ويوفي بالعقد الذي أبرمه مع ولي الأمر للقيام بهذه الوظيفة.. ومثله من عف عن المال العام مع قدرته عليه خوفا من ربه -جل وعلا- ووفاء بذمة ولاة الأمور وليقينه التام أن حرمة بيت مال المسلمين أشد حرمة من مال جاره أو قريبه.. كل هؤلاء وأولئك قد لا نعرفهم ولم يخلد أحد ذكرهم ولكن حسبهم أن الله يعرفهم.. في يوم الوطن علينا -معشر المربين- أن نذكر أبناءنا هذه المعاني الكبيرة في المواطنة، وأن نلقنهم جوهرها الحقيقي الذي كان عليه الآباء والأجداد، لابد أن نعلمهم أن كل أبناء هذا الوطن ومن درج على ثراه مدينون لمؤسس هذا الكيان وبانيه، فقد أخرج الله به هذه الجزيرة من الجهل إلى العلم، ومن التفرق إلى الاجتماع، ومن الفقر إلى الغنى، ومن التخلف إلى الحضارة والتمدن. كما أنه لا بد أن يفقهوا أن جوهر المواطنة الحقيقي وهو التزام أمر الشرع المطهر في منزلة ولي الأمر، فلا يوجد دستور ولا شرع، ولا فلسفة ولا قانون أعظم ولا أحكم ولا أسلم من قوله صلى الله عليه وسلم في بيان جوهر المواطنة وفقهها الأكبر: (ثلاثةٌ لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم -وذكر منهم- ورجلٌ بايع إماماً لا يبايعه إلا لدنيا، فإن أعطاه منها وفى، وإن لم يعطه منها لم يفِ). إن هذا النص الخالد تعجز دساتير الأرض أن تضع مثله في صياغة عقد المواطنة ورسم قاعدتها، ذلك أنه حذر أشد ما يكون التحذير من أن تكون علاقة المسلم بإمامه علاقة مبنية على دراسات الجدوى: الربح والخسارة. وشاهد عظمة هذا النص الخالد ما نراه اليوم من تهاوي الفلسفات الليبرالية والاجتماعية في صياغة عقد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وعدم قدرتها على الصمود أمام احتياجات البشر المستمرة والمتتالية، لقد صاغت هذه الفلسفات بداية من (توماس هوبز) ومروراً ب(جون لوك) حتى (جان جاك روسو) في (العقد الاجتماعي) مفهوماً جديداً للمواطنة لكنها لم تفلح في تخليص هذا العقد من القيم النفعية والبراجماتية المحضة. كما أنه لابد أن يتعلم الأبناء في يوم الوطن أن احترام الأنظمة مواطنة، وإن حماية المال العام مواطنة، وأن الاعتزاز بالوطن مواطنة، وأن الدفاع عنه مواطنة، وأن محبة قادته والدفاع عنهم مواطنة، كما أن عليهم أن يعلموا أن الوطن وقيادته أمران متلازمان لا انفكاك لأحدهما عن الآخر، وأن خطأ مسؤول أو تقصير وزير لا يتحمله الوطن ولا القيادة. ولابد أن يعلموا أيضاً أن من أخطر مناهي المواطنة وعيوبها: خطيئة المزايدة على وطنية مواطن أو مواطنة، فلا أسوأ من المزايدة في هذا الباب، بل هي من كبائر الخطايا والذنوب؛ لأنها تفرق قلوب الناس على ولاة الأمور وتوغر الصدور وتورث الضغائن، وتفتح باب الفتنة والانقسام الذي أغلقه النظام الأساسي للحكم، ومن هذا الباب ما نراه أحيانأً في وسائل التواصل من محاولة فئة محدودة إشعار الناس باحتكار المواطنة وحيازة وكالتها الحصرية والمزايدة على عباد الله فيها، ويوهمون الأغرار من متابعيهم بأنهم يتحدثون بلسان الدولة ويعبرون عن رؤيتها، وهذه خطيئة توجب التوبة، ففضلا عما فيها من خطيئة الافتئات على ولاة الأمور؛ فالدولة تقف على مسافة واحدة من جميع أبناء هذا الوطن، فهي في ذات الوقت تضلل الناس وتخدعهم، فتصور للناس أن من يحب القيادة ويثق بها هم وحدهم دون سواهم، وبقية الناس قد امتلأت قلوبهم على ولاتهم، وهذا محض افتراء وتسويل، فأبناء هذا الوطن محبون لهذا الوطن ومغتبطون بقيادته، في صدورهم هذا المعنى عقيدة راسخة وبيعة خالدة، ومن شذ عن هذه القاعدة فلا حكم له. حرس الله الوطن وحفظ القيادة وشعبها.