حينما نزل القرآن الكريم على نبيه الأكرم كانت سلطة الذاكرة الشفهية الشعرية العربية راسخة ومتينة، ثم جرى لاحقا إدماجها في المدونات التفسيرية وعلم الفقه والحديث والأدب، بما يدعم حجية النص القرآني وسلطته، في توظيف يغفل في معظم الأحوال استقلالية النص الشعري واستقلال شاعره، بينما في الوقت ذاته جاء النص القرآني ليضع حدا فاصلا بين ما هو شفهي في الثقافة والاجتماع والدين وبين ما هو كتابي، وبالخصوص منها العادات والتقاليد التي نشأ عليها العربي في نظرته للشعر والعالم والكون، وقد تطلب مثل هذا الوضع رؤية جديدة للنص الشعري تختلف تماما عن سابقتها. لذلك السؤال الذي أطرحه هنا هو: كيف يمكن تفسير هذه المفارقة بين ما يستدعيه القرآن في وجوده من رؤية مختلفة للنص الشعري من جهة، وبين ما أثير حوله من دراسات قد عززت سلطة الذاكرة وثبتتها من جهة أخرى؟ يربط أدونيس جذور الحداثة الأولى بالنص القرآني، ففي محاضراته التي ألقاها في «الكوليج دي فرانس» في باريس حول الشعرية العربية في عام 1984م، التي جمعت لاحقا في كتاب تحت عنوان «الشعرية العربية» كان يرى أن القرآن جاء على المستوى المعرفي بقراءة جديدة للإنسان والعالم، وبقراءة جديدة أيضا على مستوى الشكل التعبيري، إذ «على إثرها تمت النقلة من ثقافة البديهة والارتجال إلى ثقافة الرؤية والتأمل» لكن هذه النقلة لم تتم بسلاسة ! فقد حدثت في القرن الثاني الهجري صراعات وثورات سياسية واجتماعية نتيجة امتزاج العرب بشعوب أخرى، وبروز ظواهر عديدة منها المطالبة بالمساواة والعدل وعدم التفريق بين المسلم العربي وغير العربي، وكان يقابل كل ذلك حركات فكرية ثقافية متعددة، حاولت إنتاج رؤى وأفكار، طبيعتها تتصل بما هو فارسي أو شرقي. فعلى خلفية هذه الظروف، والخوف من ضياع الهوية العربية، تصدى لهذه الحركات اثنان من كبار المثقفين العرب -حسب أدونيس- الأول الخليل بن أحمد الفراهيدي (100- 170) والثاني هو أبو عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (159- 255) وكلاهما عربيان من مواليد البصرة. الأول استطاع أن ينظّر للشعرية الشفوية العربية من خلال الاهتمام بخصائصها ألا وهي الوزن والقافية، بينما الآخر اهتم باللغة من جهتين بخصوصية اللغة العربية، وبخصوصية المقاربة الشعرية. فإذا كانت خصوصية اللغة عنده تكمن في اللفظ لا في المعنى، فإنه تبعا لذلك فالشعرية ليست في المعنى، وإنما في اللفظ. بيد أن المقاربات لم تتوقف عندهما. لكنّ الشعراء من جهتهم مارسوا دورا معكوسا في نصوصهم الشعرية تحت تأثير النص القرآني، فمسلم بن الوليد كما يقول ابن قتيبة (أول من ألطف في المعاني ورقّقّ في القول) وحاول أن يستلهم بلاغة النص القرآني. بشار بن برد من جهته استخدم لغة الحاضرة بدلا من لغة البادية. أبو نواس أوصل هذه اللغة إلى أقصى حدودها الممكنة. بينما أبو تمام في تجربته الشعرية انطلق من رؤية ترى «أن الشعر نوع من خلق العالم باللغة». هذه المحاولات الشعرية وغيرها أوجدت صراعا نقديا تحت مسمى «المحدث والقديم» عند الكثير من النقاد، منهم من انتصر للقدماء في طريقة القول الشعري ضد طريقة المحدثين. ومنهم أيضا من حاول أن يدرس النص القرآني ويتأمل بلاغته وبيانه ويبحث تراكيبه النحوية والصرفية والأدبية مستشهدا بالكثير من أبيات الشعر الجاهلي كما فعل الفراء (207) في كتابه (معاني القرآن). لكنهم جميعا بالنهاية رفضوا – تصريحا أو ضمنا – مقارنة النص القرآني بأي نص شعري آخر. لكنّ الصراع استمر – في نظر أدونيس – في القرون اللاحقة، وكان التوقف عند ناقدين مهمين يرى أنهما ساهما بفاعلية كبيرة في الانتصار للقول الشعري على طريقة المحدثين وفق آليات أسلوبية وبيانية اعتمدت بالأساس على النص القرآني، وبالخصوص عند عبد القاهر الجرجاني (400 – 471) في نظريته التي صاغها حول النظم القرآني، بينما الناقد الآخر هو أبوبكر الصولي (267 – 336) الذي يراه أدونيس أول من دافع عن طريقة أبي تمام الشعرية المحدثة مقابل طريقة القدماء. وينتهي أدونيس إلى أن الفضاء القرآني طال تأثيره أيضا الجانب الفكري من النصوص على اعتبار أن إعمال الفكر والتأمل والتدبر ليست من السمات الشعرية الشفوية عند العرب مثلما هو الأفق القرآني كالنص الصوفي (النفري) على سبيل المثال. لكن تأثير هذا الفضاء مُني بانتكاسة هي انتكاسة الحداثة العربية نفسها التي ارتبطت جذورها الأولى بالقرآن حينما سقطت بغداد على يد المغول في منتصف القرن السابع الهجري. إن هذا التفسير أو التأويل الذي يطرحه أدونيس لم يكن سوى رؤية مسقطة من تأثير الحداثة الغربية على الموروث الشعري العربي، إذ ترى أن الحداثة فعل تمرد ورفض وانتماء إلى الذات في حياتها المعاصرة، وهي رؤية تنطبق على الحدث القرآني بلا شك. لكن ما لا نقبله أن يوضع النص القرآني موضع التأثير اللاوعي باعتباره بداية الحداثة، وما أعنيه بالتأثير اللاوعي هنا هو غياب قصدية التأثير المباشر من الخطاب إلى الفرد، وهذا يحيلنا مباشرة إلى حداثة بودلير الشاعر الفرنسي الذي ارتبط مفهوم الحديث عنده بالدرجة الأولى على مشاهدات حسية أثناء تطوافه في مدينة باريس في النصف الأول من القرن التاسع عشر، حيث المدينة لا تعني سوى حشد هائل من البشر، خاضعين للتطور الذي تعيشه المدينة في تسارع زمني مهول. لذلك ما يغيب عن تأويل أدونيس هو أن مصطلح «الفضاء القرآني» فضفاض يتسع لكل العوامل المعرفية السياسية منها والاقتصادية والدينية والثقافية والاجتماعية في تركيب نظرية عن جذور الحداثة الأولى.