السلطات الجديدة في سوريا تطلق عملية بطرطوس لملاحقة «فلول النظام المخلوع»    غوارديولا راضٍ عن أداء مانشستر سيتي رغم استمرار نزيف النقاط    طارق السعيد يكتب..من المسؤول عن تخبطات هيرفي؟    عمومية كأس الخليج العربي تعتمد استضافة السعودية ل"خليجي 27″    وزارة الثقافة تُطلق المهرجان الختامي لعام الإبل 2024 في الرياض    السعودية: نستنكر الانتهاكات الإسرائيلية واقتحام باحة المسجد الأقصى والتوغل جنوب سورية    الجيش اللبناني يتهم الاحتلال الإسرائيلي بخرق الاتفاق والتوغل في مناطق جنوب البلاد    "رينارد" يستبعد "الشهراني" من معسكر الأخضر في الكويت    بموافقة الملك.. منح وسام الملك عبد العزيز من الدرجة الثالثة ل 200 متبرع ومتبرعة بالأعضاء    أسبوع أبوظبي للاستدامة: منصة عالمية لبناء مستقبل أكثر استدامة    مدرب قطر يُبرر الاعتماد على الشباب    وزير الشؤون الإسلامية يلتقي كبار ضيوف برنامج خادم الحرمين الشريفين للعمرة والزيارة    تدخل جراحي عاجل ينقذ مريضاً من شلل دائم في عنيزة    الإحصاء: إيرادات القطاع غير الربحي في السعودية بلغت 54.4 مليار ريال لعام 2023م    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الاجتماع الاستثنائي ال (46) للمجلس الوزاري لمجلس التعاون    استخدام الجوال يتصدّر مسببات الحوادث المرورية بمنطقة تبوك    السعودية رئيسًا للمنظمة العربية للأجهزة العليا للرقابة المالية والمحاسبة "الأرابوساي" للفترة ( 2025 - 2028 )    الذهب يرتفع بفضل ضعف الدولار والاضطرابات الجيوسياسية    استمرار هطول أمطار رعدية على عدد من مناطق المملكة    الفكر الإبداعي يقود الذكاء الاصطناعي    «الإحصاء»: 12.7% ارتفاع صادرات السعودية غير النفطية    حلاوةُ ولاةِ الأمر    بلادنا تودع ابنها البار الشيخ عبدالله العلي النعيم    حملة «إغاثة غزة» تتجاوز 703 ملايين ريال    "الثقافة" تطلق أربع خدمات جديدة في منصة الابتعاث الثقافي    "الثقافة" و"الأوقاف" توقعان مذكرة تفاهم في المجالات ذات الاهتمام المشترك    أهازيج أهالي العلا تعلن مربعانية الشتاء    وطن الأفراح    المملكة ترحب بالعالم    شرائح المستقبل واستعادة القدرات المفقودة    منع تسويق 1.9 طن مواد غذائية فاسدة في جدة    63% من المعتمرين يفضلون التسوق بالمدينة المنورة    نجران: «الإسعاف الجوي» ينقل مصاباً بحادث انقلاب في «سلطانة»    أمير نجران يواسي أسرة ابن نمشان    العناكب وسرطان البحر.. تعالج سرطان الجلد    فرضية الطائرة وجاهزية المطار !    «كانسيلو وكيسيه» ينافسان على أفضل هدف في النخبة الآسيوية    لمن لا يحب كرة القدم" كأس العالم 2034″    واتساب تطلق ميزة مسح المستندات لهواتف آيفون    المأمول من بعثاتنا الدبلوماسية    مسابقة المهارات    تدشين "دجِيرَة البركة" للكاتب حلواني    إطلاق النسخة الثانية من برنامج «جيل الأدب»    نقوش ميدان عام تؤصل لقرية أثرية بالأحساء    اطلاع قطاع الأعمال على الفرص المتاحة بمنطقة المدينة    ما هكذا تورد الإبل يا سعد    أفراحنا إلى أين؟    آل الشيخ يلتقي ضيوف برنامج خادم الحرمين للعمرة والزيارة    الزهراني وبن غله يحتفلان بزواج وليد    الدرعان يُتوَّج بجائزة العمل التطوعي    أسرتا ناجي والعمري تحتفلان بزفاف المهندس محمود    اكتشاف سناجب «آكلة للحوم»    دور العلوم والتكنولوجيا في الحد من الضرر    خادم الحرمين وولي العهد يعزّيان رئيس أذربيجان في ضحايا حادث تحطم الطائرة    منتجع شرعان.. أيقونة سياحية في قلب العلا تحت إشراف ولي العهد    مفوض الإفتاء بجازان: "التعليم مسؤولية توجيه الأفكار نحو العقيدة الصحيحة وحماية المجتمع من الفكر الدخيل"    نائب أمير منطقة مكة يطلع على الأعمال والمشاريع التطويرية    إطلاق 66 كائناً مهدداً بالانقراض في محمية الملك خالد الملكية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الأفق الأدونيسي في مجلة "فصول". ماذا تبقّى من أدونيس بعد أربعين عاماً من الشعر ؟
نشر في الحياة يوم 22 - 08 - 1998

استهلت مجلة "فصول" - النقد الأدبي، منذ بدايتها، عهداً جديداً من النقد يُثرى بتنوع المناهج وتعدد الرؤى، ما أتاح للقارئ العربي والمختصين التعرف على الاصول النظرية للمناهج النقدية الحديثة ابتداء من البنيوية والهيرمنيوطيقا انتهاءً بالانعكاس والتفكيك ونقد القارئ. ثم سعت الى تطبيق هذه المناهج، فبدأت بأعلام الشعر العربي تأكيداً لحضور الاتجاهات المعاصرة في شعر الحداثة العربية الذي لا يمكن غلقه في دائرة "شو÷ونية" بعينها.. فكانت الأعداد "شوقي" و"حافظ" و"صلاح عبد الصبور" وآخر كان "عبدالمعطي حجازي" متناً محورياً له.
ويجيء "الأفق الادونيسي" امتداداً للسياق السابق، وتؤكد افتتاحية العدد على "أننا عندما نبدأ بالأفق الأدونيسي، فإنما نبدأ بأفق الابداع الشامل الذي نستهله رمزياً بشعر أدونيسي. ليس بوصفه الشعر الأفضل بين شعر الشعراء العرب المعاصرين.. وإنما لأن الأفق الذي يفتحه هذا الشعر يعد بالتجدد الدائم، ويغري بالتمرد المتصل حتى على فاعل التمرد الذي يغدو موضوعاً لتمرده الذاتي، فالشعر الادونيسي يضع نفسه موضع المساءلة بالقدر الذي يضع أفكار القارئ الموضع نفسه، ووسلينا الدرس النقدي الذي ينطوي على معنى الاستعارة التي تستبدل لواحدية الإشارة تعددية الدلالة.. فالتعدد والتنوع علامة الدرس النقدي المحدث.. وتأكيداً لمعنى التعدد والتنوع نبدأ من شعر أدونيس لنصله بغيره من شعر أقرانه الذين نكن لهم كل التقدير والإعزاز والعرفان بما أسهموا به في المغامرة العظمى لإبداع الشعر العربي المعاصر".
و"الأفق الأدونيسي"، يحتوي ثماني عشرة دراسة، وست إضاءات تطبيقية، منها خمس حول "الكتاب - أمس المكان الآن" كما حفل العدد بأربع عشرة شهادة عن الشاعر، وهنا نحاول استكناه البعض الذي يدل على أشباهه من "الأفق الأدونيسي" لنجد بانورامية ما تكتنف ذلك "الأفق" الذي تابع تحولات الشاعر عبر أربعة عقود من الانجاز والتطور، تنوعت فيه الرؤى وكثرت التساؤلات.
في دراسته "ما بعد الادونيسية: شهوة الاصل" يرى عبدالله الغذامي أن هناك سؤالين لا يمكن لقارئ أدونيس ولا أدونيس نفسه أن يغفلهما: أولهما: ما جدوى الحداثة والتحديث، خاصة حين يرفضه المجتمع؟ الثاني: ماذا يبقى من ادونيس بعد أربعة عقود من الإبداع بكل مراحله وتحولاته؟ ويسعى الغذامي الى طرح الأسئلة المهمة أكثر من بحثه عن اجابات لها مضيئاً فكرة "الأصل" عند أدونيس، آخذاً عليه في البداية أن قراءته أي أدونيس ممكنة على كل وجه "يمكن قراءته بالضد أو مع، فإن نصوصه تعطي طالبيها ما يطلبون"، ويعود - هذا في رأي الغذامي الى الكيفية التي يتم بها تفكيك الخطاب الادونيسي، إلا أنه يراه - مع ذلك - خطاباً "أقوى من أن يسمح بإعمال مصطلح "موت المؤلف". وحول انشغال أدونيس بفكرة "الأصل" انشغالاً يبدو مصيرياً، يقول الغذامي: "هذا الحداثي المغالي في حداثته، والمتمادي في التحديث بلا تورّع - حسب الصورة النمطية عنه - يظهر محموماً بفكرة الأصل والتأصيل، كأنما هو أصولي متعمق في اصوليته" ومن ثم يرى الغذامي الحداثة لدى أدونيس مصطلحاً مرادفاً، وليس مغايراً، أصلاً ينضاف الى "اصل" وينبش عن "أصل"، إلا أن الغذامي يرى - في موضع آخر من الدراسة - حداثة أدونيس باعتبارها مشروعاً اعتدالياً، فهو إن كان متعسفاً في سحب مقولات أدونيس الى حدود لم يقصدها المؤلف، فهو لا يرى لقصد المؤلف مركزية في التأويل، ويتساءل: "ما الذي يجبر أدونيس على أن يقول قولاً قابلاً لأن يؤوّل هذا التأويل".
يتوقف الغذامي عند فكرة "الأصل" في سيرة أدونيس الشعرية "ها أنت أيها الوقت" الصادرة العام 1993، وقد اعتبرها "صوتيم النص ونواته" حيت تتجسد هنا فكرة الأصل في "بحث أدونيس عن شجرة النسب العائيلية لوقته ولخطابه ولنواياه"، فحين يخاطب "الوقت" وقت الحداثة ووقت الخطاب المحجب، يفعل ذلك كي ينزع الحجب عن الخطاب ويُسْفِر عن وجهه بلا مواربة. ثم يشير الغذامي الى أخطر مزالق الفكر العربي، وتكمن في اختلاط "الأصل" مع "التقليد" اختلاطاً شبه عضوي "حتى صار أي انتقاد للتقليد كأنما هو انتقاد للأصل"، ومن ثم فإن أي "تجاوز" يتم تغييره باعتباره تجاوزاً للأصل لا للتقليد، فيكون أدونيس، لتجاوزه، متهماً ومارقاً!!
وإذا نظرنا الى "التقليد" لدى أدونيس سنجدها لفظة تشير الى "محاكاة" الأصل، لا إلى "الأصل" نفسه، فهو عندما يقول مثلا "شعر تقليدي" أو "فكر تقليدي" لا يعني بهما شعر الأصل، أو فكر الأصل، إنما يعني بهما تحديداً "النتاج الذي استعادهما في عصور لاحقة، بطريقة تنميطية اجترارية" كذلك فإن الرفض والتجاوز لا يعني لديه "سوى رفض القراءات التي فهمت "الأصول" بطرق لم تؤدِ الى الكشف عن حيويتها وغناها، بقدر ما أدت الى قولبتها وتجميدها" وهو ما يتفق مع زاوية أخرى ودعوة أدونيس لضرورة "إلغاء الزمنية" وتحرير الحداثة منها. ليتسنى للحداثة أن تكون "عودة الى" الأصل.
وفيما يخص علاقة الحداثة العربية بالحداثة الغربية، فإن أدونيس يعتمد المقولة الجرجانية "الاختلاف والائتلاف" كأساس لهذه العلاقة من ناحية وليقيس بها من ناحية أخرى المسافة بين الإبداع والتقليد من جهة وبين الأصالة الحضارية والذوبان الخارجي من جهة.. وفي "بيان الحداثة" أشار أدونيس لما اسماه "بالاختلاف المتكيف والائتلاف المتأصل" معتبراً الحداثة "مشروعاً عربياً اصيلاً" مبكر الولادة، بل ومتلازماً - منذ النشأة - مع "القدامة" أو "القِدم" اصطلاحيا.. وهنا يرى الغذامي "حقاً تاريخياً وقيمياً للحداثة مساوياً لحق "القدامة".." وحسب أدونيس، فأن يكون الشاعر العربي "حديثا" هو "أن تتلألأ كتابته كأنها لهب طالع من نار "القديم" وكأنها في نفسه نار أخرى.."، فهو ينظر دائما لعلاقة عضوية بين ذات المبدع وأمّته، إذ لا يخرج إبداع الذات الفردية عن إطارها القومي، وهنا يكمن "الائتلاف" العضوي و"يتأصل" عبر "الاختلاف" الواعي - من تلك الذات المبدعة - لطبيعة العلاقة التلاحمية بينها وبين أمتها، ووعيها بشروط التجاوب اختلافاً وائتلافاً.
وفي دراسته "سؤال المعنى، والمعنى الشعري" يبحث مصطفى الكيلاني في المعنى الشعري، والشعر - المعني، ذلك النوع من الشعر الذي يمكن أن يصل بين مختلف الذوات المتكلمة، في إطار من تجاوز بيئته الخاصة "بقطع النظر عن اختلاف الأمكنة والأزمنة واللغات" ويتساءل عن كيفية التقاء الحسي والتجريب في بنية اللغة الشعرية على وجه الخصوص.. ولا يقتصر الكيلاني - في وصوله للإجابة - على بعد واحد في استقراء المعنى الشعري في غايته الكوزموبوليتانية تلك، تطبيقاً على "أول الشيء" لأدونيس.
ومن ثم فإن الكيلاني يعتبر سؤال ادونيس داخل النص "أأنا أنت؟" هو مركز النواة الدلالية العميق في نصه "أول الشيء ذلك أننا "لو بحثنا في نسق إطراد الحركة الشعرية العام.. وفي إعادة بناء القصيدة تأويلياً، حيث لا شيء خارج مدار القصيدة.. تسفر الكتابة الموحية عن لعبة فنية مادتها اللغة وروحها ذلك ألماً واضعاً أدونيس في حركة تطور الشعر العربي في العقود الأربعة الأخيرة باعتباره "مرتجلاً طرقاً جديدة لكتابة القصيدة، لم تكن معروفة من قبل"، وأشار الى أن الاختلاف والتميز لديه انبنى أساساً على فهم أدونيس المختلف لتلك الحساسية الجديدة، وللحرية في الكتابة خارج الأطر والتقاليد، فلم يكن فهم أدونيس في تبنيه الحرية الشعرية كنوع من الإثارة لسلسلة من التحديات التقنية المعزولة ليتم التنافس عليها، بل التبس لديه بالرؤية الصوفية التي قُمعت داخل الخطاب الرسمي للثقافة العربية "يدعم هذه الرؤية عن السيرورة المتنوعة والمتجددة ذاتياً، وسط اشياء العالم، تماسُك التفاصيل الهائلة التنوع في شعره، وسيطرة استراتيجية على مستوى الشكل والأسلوب".
ويرى دينس لي أن هناك بديلين يملكهما شعر أدونيس، يتجلى أولهما في "الحركة نحو الاتحاد مع امرأة معشوقة تنبعث التحولات والتجددات القديمة في جسدها ثانية.." ويمثل ذلك تطبيقياً قصيدة "تحولات العاشق". الثاني يتبدى في مواجهة الجنون المجتمعي والحضاري الذي لا يهدأ، ومثله تطبيقياً قصيدتا "صحراء" و"كتاب الحصار".. وقد اثار دينس لي في شهادته نقطة اشكالية مهمة حول ما أسماه ب"مأزق قراءة ادونيس" فأدونيس ليس شاعراً مشْكلاً للتيارات المحافظة في الشرق فقط بل يعاني نصه المأزق ذاته من زاوية مختلفة في الغرب، فدينس يقول: "يمكننا أن نستوعب عمله بسهولة، ونحيله الى نماذج مألوفة، اي ان نقرأة كأوربي غرائيي، إلا ان هذا سيكون تشويها"، ويضيف: "إن التحدي بالنسبة إلينا هو أن نميز كيف يعيد عمله، عميقاً، خلْق تقليد عربي ليس نسخة عن تقاليدنا، أو على الاقل سيظل هذا التحدي مطروحاً"، ويرى ان شعر ادونيس في الحركات الايقاعية التي يبتكرها، وفي لغة صوره، يحمل ملامح العالم العربي والغربي في حالة اصطدامهما.. ويؤكد على اختلاف ادونيس، ذلك الاختلاف الذي يتطلب قدراً من التعاطف و"الحدس" معاً "كي يمكن وضع هذا الشعر في سياقه".
وفي دراستها "هوية ادونيس السردية" تثير "امينة غصن" عدة تساؤلات حول منجز ادونيس الابداعي، فهي وإن كانت ترى مغايرة في فهمه للتراث، الا انها تأخذ عليه "انه قرأ التراث قراءة لاهوتية، لا تاريخية".
ثم تتساءل حول انشغال ادونيس "بأسئلة البدايات": كيف نتعامل مع التراث؟ كيف نقرأ أعلام الفكر الغربي؟ او كيف السبيل الى تجديد الفكر الاسلامي؟ وتؤكد امينة غصن ان نقد ادونيس "يعد استجابة لندائه النقدي، ونكون بذلك اوفياء لمشروعه الفكري والثقافي"، ومن ثم تشير الى ان ادونيس الذي يود الانتماء الى فضاء الحداثة وما بعدها "لا يزال يمسك بآليات دفاعية لاهويته" في معرض دفاعه عن مشروعه الفكري، ورغبة منه في قطع الطريق على المتربصين، فماذا عن اعادة قراءة "الاصول" ما دام ادونيس يراها اصولاً قد ورثت للجميع ولا يختلف احد على اصوليتها، إنها تراه - هنا - يفكر تحت وطأة وعيه لهويته الجمعية، فهو يخشى - على تعبيرها "الانقطاعات الجذرية بين الماضي والحاضر، وينيط بنفسه دوراً هو من اختصاص أمة بكاملها"، هذا رغم دعوته الى ان الثقافة المختلفة لا يمكن الا ان تبدأ "بنقد الموروث نقداً جذرياً وشاملاً"، وانه يمكن ايضا لهذه الثقافة - حسب ادونيس - ان تستمد اسئلتها من عناصر مشابهة في الفكر الاسلامي، كالقرمطية، او الصوفية.. لكن امينة غصن ترى ان "الثقافة العظيمة ليست مجرد دعوة او رسالة تبشير بها" ومن ثم تقول بأن "وعي ادونيس بجدلية العلاقة بين الاتباع والابداع كان وعياً نظرياً، لانه أخفق في الكشف عن هذه الجدلية، كما ان هذا الوعي أوقعه في مهاوي الانتقائية والتمييز غير المنضبط لكل ما هو خروج وبدعة".
وحول تساؤلات ادونيس في "الشعرية العربية" عن احادية الخطاب النقدي التقعيدي السائد، وان تعددت اصواته، وعن تلك النظرة الواحدة، وهل استمرار الخطاب الاحادي مستعاداً ومكرراً يعد إحدى صيغ اثبات الهوية، لذلك فهو يلغي ما سواه من خطابات بوصفها تشكيكاً في هذه الهوية، كذلك سؤاله حول ذلك الصمت والغياب والنقص وراء هذا الخطاب التقعيدي الاحادي ودعوته في "الشعرية العربية" ايضاً الى ضرورة وجود قراءة لتراثنا "تكشف عن الغياب والنقص وتستنطق الصمت"، تراها امينة غصن اسئلة مهمة من زاوية انها "استطاعت ان تقارب تخوماً تتجاوز الفهم السلطوي البطريركي الاحادي وتقيم التمايز بين مفهومي "التفسير و"التأويل" لكنها تتحفظ فترى ادونيس غير خارق للممنوع "ولم ينتهك المحرم، ولا يريد القيام بتعرية اكسيولوجية لزمن الوحي والتأسيس،. كما انه لا يريد النيل من سلطة المقدس، لذا يعود دائماً لقراءته السياسية لا التفكيكية".
أما التجربة الباطنية الإمامية والصوفية، فتراها امينة غصن - لدى ادونيس - قائمة على تجاوز التاريخ المكتوب، وعلى تجاوز الظاهر المنظم في تعاليم وعقائد، لانها تتجه الى باطن العالم وتعني بمعناه الخفي او المستور"، لكن الصوفية - كما يراها ادونيس - لم تعتمد كذلك الشريعة / النبوة، الظاهرة، إن كانت الولاية هي الباطن، إذ ان الطريق التي يسلكها الصوفي لمعرفة باطن الالوهة ليست إلا شكلاً من علم الإمامة، وليس علم القلب الصوفي إلا شكلاً اخر لعلم الإمام الغائب.
واهمية التجربة الصوفية في نظر امينة غصن تكمن في كونها ترى ان النص القرآني دال لغوي لمدلول هو الوجود، والتجربة الصوفية لدى ادونيس "هي النفي التام لكل تفسير جاهز، وهي تأسيس لتأويل جديد في تجربة الوجود" وحقيقة الامر ان ادونيس يرى التصوف "يؤسس لحداثة العربية، لانه تأويل لعلاقة الحياة والفكر بالوحي الديني، كما انه مغامرة في المجهول ولا مرجعية له الا المناجاة والوجد والذاتية" اذ هي تجربة تتخطى مجرد النظر الى تأسيس كتابة مغايرة تجاوزت تراث "القوانين" كي تقيم تراث "الأسرار" وهذا ما جعل ادونيس يشير في "الصوفية والسريالية" الى ما يمثله الفكر الصوفي من انقلاب معرفي قد يهدد السلطة التي تستند الى النص، لا النص ذاته، إذ ان الصوفي اساساً يتجاوز - قراءة وتأويلا - ظاهر النص الى باطنه فانه مما "يؤدي الي زلزلة الفكر القائم عليه فقهاً وشرعاً، وفي زلزلة هذا الفكر ما يزلزل السلطة التي تستند اليه".
ومن الدراسات العديدة والمتميزة التي تناولت "الكتاب - امس المكان الآن" دراسة كمال ابو ديب، الذي استعرض السياق الدلالي التاريخي والمقدس للفظة "الكتاب" والذي - في رأيه - لم تمنع السماحة الادبية والفكرية من استخدامه في سياقات اخرى، مثلاً حين استخدمه سيبويه على مجمل ما رآه من نحو العربية "الكتاب"، كذلك سُمي اليهود والنصارى "اهل الكتاب"، ومن ثم يرى ابو ديب ثمة اشتباكاً دلالياً في نص "الكتاب - امس المكان الآن" مع تلك الاستخدامات السابقة عليه للفظة "الكتاب"، في اطار الدلالة المخصصة "وهي الدلالة على اهمية العمل وموقعة في المجال الذي ينتمي اليه، وعلى مكانته بين منجزات صاحبه، وهو ما جعله يقرر ان ادونيس "ينسب للقراءة الابداعية الجديدة -التي يقدمها، للتاريخ العربي - مكانة الأم من القراءات الاخرى"، وهو ما يوحي بفرادة ومأسسة واختتامية ينطوي عليها "الكتاب" في سياق عمل ادونيس الابداعي العام.
ولقد جاء "المكان" في "الكتاب" بين مكونين للزمان: امس، اليوم، الآن، ويرى ابو ديب ذلك إقحاماً تجاورياً لا يحكمه منطق توالد او تشابك، رغم ما يمنحه للمكان من مركزية عالية، إذ وضعه الوسيط السابق يسمح له "بالاشعاع باتجاه ما قبله وما بعده"، وتلك المركزية وسطية الطابع جعلت أبا ديب يرى المعنى سامحاً بقراءتين على الاقل: "امس والمكان والآن" او "امس هو المكان الآن" واخذ ابو ديب يتبع تلك التبادلية الدلالية للعنوان مستقصياً المواطن التي تجتلى فيها العلاقة بين الزمان والمكان لاستكناه الاشكال المطروح، والذي ارى ان له بعداً عميقاً ذا دلالة تداخلية تطرح التدوير لا التبادلية بين الفاظ العنوان، وهو ما يوحي ببعد صوفي لجوهر المعنى في تداخل الزمان والمكان، ثم إن مركزية المكان في النص/ المتن ايضاً تنضاف الى مركزيته في العنوان.
ويتناول ابو ديب فعل الكتابة الفيزيائي في "الكتاب" والذي يقوم على تخطيط هندسي متميز وجديد يقوم على اساس من العلاقات المساحية والفراغية في مستويات بصرية ثلاثة، لا تراتبية بينها، لذلك لم يسمها ابو ديب 1، 2، 3 أو أ، ب، ج انما سماها م، ع، ص حيث لكل قسم منها خصوصيته الطباعية والكتلية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.