المتابع لنتاج أدونيس الشعري والفكري عبر تاريخه الطويل، يلاحظ أن مسيرة هذا الشاعر/ المفكر أثارت وما زالت تثير الكثير من المشاعر والانفعالات المعارضة والمؤيدة على حد سواء. وأصر هنا على وصف جل ما صدر بكلمة "انفعالات" - وان كانت هناك بعض الكتابات الجادة والرصينة والتي لا يمكن تجاهلها - لأن الغالب العام قد تفاعل مع أدونيس بمشاعره وأحاسيسه، لا بعقله وفكره النقدي والموضوعي، بعيداً من اسم الشاعر/ المفكر وما يلقيه من ظلال. وكما يقول عبدالله الغذامي: "يبدو ان النص الأدونيسي أقوى من أن يسمح بإعمال مصطلح موت المؤلف. ولذا صار حجاباً يقمع الخطاب فيلغي زمانيته ويحوله الى خطاب وقتي محجوب، وهذا لا يؤهل أياً منهما - الموافق والمخالف - لإعطاء حكم نقدي عن أدونيس أو لقراءة الخطاب الأدونيسي قراءة ابداعية". لذا فمن الضروري لأي قارئ للخطاب الأدونيسي ان يلتفت لنقاط ينبغي ان يعيها قبل ان يعمل رأيه ويصدر حكمه، وهي كالتالي: 1- إن الخطاب الأدونيسي خطاب مركب معقد متشابك، يرتبط ببعضه البعض عضوياً، حيث يشكل بنية متكاملة لا يمكن تفكيكها لكانتونات صغيرة تدرس منفردة من دون ربطها بسياقها العام وبنيتها المتواشجة. 2- وبقدر ما هو خطاب حداثي تقدمي، ينفر مما هو سلفي وما. ضوي، هو أيضاً خطاب موغل في الأصل والقدم، أو ما يسميه عبدالله الغذامي "شهوة الأصل"، فالحداثة التي ينادي بها أدونيس حداثة تمتد جذورها الى أعماق التراث العربي. يقول أدونيس: "إن جذور الحداثة الشعرية بخاصة والحداثة الكتابية بعامة كامنة في النص القرآني". كما أن الحداثة التي يعنيها أدونيس والتي تلهبه شهوة للأصل هي: "الاختلاف في الائتلاف. الاختلاف من أجل القدرة على التكيف وفقاً للتقدم، والائتلاف من أجل التأصل والمقاومة والخصوصية". 3- هناك ميزة أساسية في الخطاب الأدونيسي هي الحراك الدائم وعدم الثبات والتبدل المستمر، الذي يكشف عن قلق السؤال وقلق المعرفة، كما يكشف عن حيوية الخطاب وديناميكيته، وعدم جموده وقدرته على التجدد والمواكبة، وعدم استغراقه في ذاتيته بل مواكبته المستمرة للآني والمستقبلي في الوقت الذي يضرب بجذوره في الأصل. قد يعتبر البعض أن التحول هذا سمة ضعف أو حيرة. لكن الصحيح انها سمة حيوية دائمة، بمعنى قدرة الخطاب على المواكبة وقدرته على تجديد بنيته. كما ان ذلك لا يعني تشتت الخطاب أو تعثر ملامحه أو عدم ثباته، بل يعني بالضبط تجدد ماء النهر، أو لنقل بمعنى فلسفي أدق، إن حركة الخطاب "حركة جوهرية"، بحسب تعبير الشيرازي، أي الحراك الدائم بالارتكاز على النواة أو الأصل الثابت. وكأن أدونيس يتمثل الآية الكريمة "كل يوم هو في شأن". ويمكننا ملامسة هذا الحراك في التعريفات المتعددة لمفهوم أو مصطلح الحداثة عند أدونيس، والتي نراها تتبدل من حين لآخر، وبدرجة قد تصل للتضاد والتضارب، عندما نقرأ كل مفهوم بمعزل عن سياقه وظرفه. فتارة يعرف أدونيس الحداثة بأنها: "الاختلاف في الائتلاف"، وتارة أخرى بأنها: "هدم قيم جمالية ومعرفية قديمة وإحلال قيم معرفية وجمالية جديدة مكانها". وتارة يربط أدونيس الحداثة بتحققها الخارجي فيقول: "الحداثة فاعلية ابداعية، وليست كساءً. انها حداثة الانسان لا حداثة الشيء. وهذا نزر من كثير من رؤية أدونيس للحداثة التي قد يراها البعض مضطربة، في حين انها رؤية متكاملة متجددة يربط بينها خيط رفيع يصل بين أجزائها. 4- إنه خطاب مؤسس ومرتكز على خلفية ورؤية حضارية، تعمل جاهدة من أجل تأسيس مشروع فكري/ شعري متكامل، يحمل بين طياته خصوصية اللغة التي ينتمي اليها، وخصوصية التراث النابع منه، مع عدم الجمود في الماضي، وانما الاستفادة منه بما يناسب الحاضر، مزاوجاً ذلك كله بالتراث الانساني العام، والمنجز البشري المعاصر، من دون انبهار به وانقياد أعمى اليه. مؤكداً على ضرورة الاستبصار المعرفي، رافضاً ان يكون نسخة عن حداثة أخرى، وداعياً لأن يصنع الانسان حداثته الخاصة التي تحمي ذاته، وفي الوقت نفسه لا تجعله منكفئاً عليها، بل تكون له كالنافذة الرحبة التي تطل به على العالم. يقول أدونيس في هذا الصدد: "لا أريد ان أعلي من شأن الحداثة الغربية حيث أجعلها معياراً مطلقاً للتقدم. ولا أريد في المقابل، ان أنكر الانجاز العظيم، الفكري والتقني، الذي حققته، أو ان أدعو الى الانفصال عنها والى رفضها. ما أريد هو ان نعيد الاستبصار المعرفي الخلاق في هذه الحداثة وفي تراثنا على السواء. وأريد ان أؤكد على أن الحداثة لا تكون بالعدوى، أو بالتقليد، أو بالاقتباس الشكلي، وعلى أن المجتمع يكون حديثاً بإبداعه حداثته الخاصة، بممارسة ثورته الداخلية الخاصة التي تخرجه من عالمه التقليدي". إذا أخذنا النقاط السالفة الذكر بالاعتبار، يمكننا ان نبني عليها المقولات التالية: أولاً، ما قام به أدونيس من تجديد في الفكر والشعر العربيين كان عملاً مؤسساً، مبنياً على قراءات معمقة وتراكم معرفي رصين. فأدونيس لم يؤسس للحداثة دفعة واحدة، ولم يكتب القصيدة الحداثوية من فراغ. فهو قرأ الشعر الجاهلي، وشعر المتنبي وأبي نواس وأبي تمام، وبعبارة مختصرة قرأ الشعر العربي منذ بداياته، كما جمع مختارات منه محتفياً بها في ثلاثة مجلدات، وكتب الشعر العمودي وشعر التفعيلة وقصيدة النثر، وأسس لنفسه ذائقة شعرية. أي أن هذا الجنين بدأ في التكون والنمو بشكل تدريجي وطبيعي، إلى أن وصل إلى حال الصيرورة، فأصبح مشروعاً شعرياً وفكرياً ناضجاً. لذا ليس من العدل اعتبار أدونيس مولوداً مشوهاً أو غير طبيعي الولادة. ثانياً، إن العمل الشعري أو أي فعل ثقافي آخر، هو جهد بشري وتجربة إنسانية عامة، لا يمكن إضفاء صيغة القداسة والعصمة عليها، لأنها ليست قولاً إلهياً ولا مقدساً. أي أنها أمر قابل للنقاش وللإثبات أو النقض على السواء، وفق القراءة النقدية الموضوعية لتلك المقولات. وعليه يحق لأي ناقد طرح علامات الاستفهام على مجمل تلك المقولات وقبول بعضها ورفض البعض الآخر. لذا فإن لكل مفكر قراءته الخاصة واجتهاده الذي قد يتفق فيه مع غيره وقد يختلف. من هنا فمن حق أديب ومفكر بحجم أدونيس أن تكون له قراءته الخاصة للتراث وإضافته المعرفية، سواء من حيث التجديد على مستوى الشعر، أو مفهومه للشعرية، أو نظرته للغة وحداثتها، واجتهادات أدونيس في هذا المجال أمر مشروع وحق ثابت له، يتساوى في ذلك مع أي مبدع ومفكر. وهنا يقع الكثير من أصحاب القراءات الاجتزائية والانتقائية في إشكال بسبب عدم فهمه لطبيعة الاجتهاد والحداثة الأدونيسية. فالكثير يتوهم أن أدونيس جاء من أجل اجتثاث الشعر العربي من أصوله والانقلاب عليه، وقطع أي صلة به أو بالتراث، وهذا فهم سطحي ساذج. يوضح أدونيس ما يؤسس له من خلال تفريقه بين مفهوم التقليد ومفهوم الأصل. حيث يقول: "إن لفظة تقليد تشير إلى أمرين: أصل، ومحاكاة للأصل. وكانت لفظة أصل تعني بالنسبة إلينا الشعر الجاهلي والقرآن الكريم والحديث النبوي، لهذا حين كنا نقول عبارات مثل شعر تقليدي أو فكر تقليدي لم نكن نعني بهذا شعر الأصل وإنما كنا نعني النتاج الذي استعادها في العصور اللاحقة بطريقة تنميطية اجترارية، وحين كنا نصف قصيدة بأنها تقليدية لم نكن نطلق عليها هذه الصفة لمجرد كونها موزونة، وإنما لأسباب أخرى، وحين كنا نقول بالرفض أو التجاوز أو التخلي كنا نعني على الأخص رفض القراءات التي فهمت الأصول بطريقة لم تؤدِ إلى الكشف عن حيويتها وغناها، بقدر ما أدت إلى قولبتها وتجميدها". إضافة لما سبق يمكننا أن نلمس موقف أدونيس الواضح من التراث ومفهومه لكيفية التعامل معه من خلال قوله: "إن الاختلاف المفرط عن تراث اللغة التي يكتب بها الشاعر هو الموت، أي التبخر كالدخان، بالقياس إلى نار هذه وجمرها. والائتلاف المفرط هو الموت أيضا أي التخثر كالحجر". ما يسعى اليه أدونيس، إذاً، هو المزاوجة بين الأصالة والمعاصرة، وبناء فكر حداثوي ينجب لنا كائناً عصري الصفات، حسن المظهر، متين البنية، ذلك الكائن هو الإبداع .إلا أنه وعلى رغم ما أعلنه وكتبه أدونيس، نجد أن خطابه ما يزال محط ريبة وتوجس، وهدفاً للاتهامات غير العلمية التي ترجم بالغيب من دون أساس علمي. ولو أخذنا اللحظة الراهنة كمثال على ذلك، فإننا سنجد أن النقد اللاذع ازداد بشكل مخيف يوحي بردة فكرية الى الوراء، طبعاً ليس المقصود هنا أن نحيط أدونيس بصنمية متعالية تمنع عنه النقد، بقدر ما نهدف من أجل قراءة جديدة وواعية للخطاب الأدونيسي. ولو أخذنا أمثلة على النقد الموجه لأدونيس سنجد التباين الواضح. ولنأخذ مثالين على ما نقول: المثال الأول هو النقد الشخصاني الذاتي، الذي يلقي التهم جزافاً دونما دليل. ويتمثل في نقد الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي، ود.محيي الدين اللآذقاني، وكلاهما يرجمان أدونيس بتهم لا دليل عليها. بل يصل الحد بالشاعر أحمد عبد المعطي حجازي إلى أن يتهم أدونيس بسرقة وانتحال كتابه "الثابت والمتحول" من أحد المفكرين الغربيين. وقبل أن أنتقل للمثال الضدي الثاني، أشير للاتهام الذي يوجه لأدونيس من أنه عمل على تخريب الذائقة الشعرية العربية، وهذا أمر صحيح، ولكن بأي معنى؟ إنه صحيح ضمن مقولة "الأثر السلبي" أو "التدميري" للخطاب الأدونيسي بحسب تعبير محمد العلي، الذي يرى أن هذا الخطاب سبب أثراً تشويهياً لا لخلل في بنية الخطاب، ولا لأن هذا الخطاب خطاب تدميري رجعي، بل بسبب من حاول محاكاة هذا الخطاب، وبسبب المقلدين السلبيين الذين حاولوا اقتفاء أدونيس في ما يكتب من شعر، فكان نتاجهم الشعري كارثة على الذائقة العربية، وبهذا المعنى تكمن السلبية. أي أنها ليست عيباً في ذات الخطاب ولكنها بسبب المقلدين الذين عملوا على تكوين نماذج صورية مشوهة له، بعيدة كل البعد من جوهره وعمقه الفكري والشعري. أما المثال الضدي الثاني فهو عبد الله الغذامي، الذي تفصله عن النموذج السابق مسافة شاسعة. فالغذامي تناول أدونيس بالنقد في كتابه "النقد الثقافي"، الذي وصف فيه أدونيس بالفحل، وبالحداثة الرجعية، في قراءة جديدة ومغايرة للخطاب الأدونيسي تختلف عن سابقاتها من القراءات المعارضة، بارتدائها جبة العلم والموضوعية ومحاولة التأسيس لمعارضة عقلانية تفضح المضمر والمسكوت عنه في الخطاب الأدونيسي. هذه المحاولة النقدية من قبل الغذامي، والتي يؤسس من خلالها لمشروع متكامل، يهدف لفضح الأنساق المضمرة والمختلة من داخل الثقافة العربية، احتلت مساحة واسعة من الجدل الدائر في الأوساط الثقافية على اعتبار ملامستها لرموز كبرى في الذاكرة العربية. لسنا في صدد التعرض لمشروع الغذامي بالنقد أو المساءلة، لأن ذلك يحتاج لبحث مستقل. إنما ينبغي التأكيد في هذا المقام على نقطة مهمة من أجل إنصاف الرجلين أدونيس والغذامي. حيث أن البعض استهوى الصيد في الماء العكر، وأخذ يشنع ضد أدونيس، مستخدماً مقولات الغذامي في تشنيعه. معتبراً أن رمزاً من رموز الحداثة هو الغذامي انقلب على أدونيس، وأخذ يفضح مكنوناته. وهذا خلط واضح واستخدام مؤدلج لمقولات فكرية محضة. فالغذامي لم يرتد للماضوية. كما أنه لم ينتقد الخطاب الأدونيسي بمطلقه وكله. وإنما انتقد طبقة من طبقات الخطاب الأدونيسي وجزءاً منه. فالخطاب الأدونيسي في رأي الغذامي متراكم مبني من طبقات وفيه مستويات عدة قد تتباين في بعض الأحيان- كما أوضح ذلك في مجلة "فصول" المصرية خريف 1997. من هنا فإن من اعتقد أن أدونيس فحل مطلق ورجعي بالجملة بحسب رؤية الغذامي فقد أخطأ. لذا ينبغي أن نعيد قراءة المشروع الأدونيسي من جميع جوانبه، قراءة حرة نزيهة متكاملة، تشمل جميع ما كتب في جميع مراحل نموه، الأمر الذي سيفضي إلى نتائج قيمية موضوعية، سواء اتفقنا مع أدونيس في ما نتوصل إليه أم اختلفنا. * كاتب سعودي.