لم يكن المربون والتربية قصراً على البيت والمدرسة بل تتجاوزهما لتبلغ الشارع وبيئة العمل، وبقدر ما تؤثر هاتان البيئتان سلباً على الإنسان في سلوكه أحياناً فإن لها من الإيجابيات ما لا يمكن حصره في عجالة، وربما تلمَّس كلٌّ منا في حياته موقفاً مؤدباً له وضابطاً لنوازع الشر فيه عبر جارٍ قريب أو رئيس أو زميل في العمل. ولا شك أن الشارع والعمل يشكلان قدوة للإنسان في السلب والإيجاب، والقادر على عدم الانجراف إلى دائرة السلب قد يكون منبوذاً في كثير من الأحايين، كحال الممتنع عن معاقرة الخمر بين المتنادمين. فليس لشاب نشأ في طاعة الله مكان بين الأشقياء، وليس لموظف نزيه قدر بين الخونة في بيئة العمل من زملائه ورؤسائه. ففي ميدان الفضائل لا مجال لتجاذب الأقطاب المتنافرة وتنافر المتشابهة كما هو الحال في خصائص المغناطيس. وليست الشقاوة وقفاً على ما يغضب الله، كما أن خيانة الأمانة ليست وقفاً على نهب المال العام، وإن كانت هذه من أبرز خصائصها، ولكنها تبلغ كل سلوك يضرب بالقيم الوظيفية عرض الحائط،؛ فالموظف الذي يتقاضى راتباً دون إخلاص في العمل هو خائن خفي يأخذ كامل أجره دون وجه حق، والذي لا يعطي الدوام حقه ويأخذ راتبه كاملاً هو أيضاً شريك في خيانة المال العام. والمربي الذي أعنيه اليوم ليس والداً في البيت، ولا معلماً في المدرسة، ولا جاراً قريب الدار، لكنه زميل في العمل يجمع كل هؤلاء؛ فقد كان الأب والمعلم والجار الجنب وكان فوق هذا مرآة للفضيلة والخلق النبيل. إنه المربي محمد علي صيرفي أو العمدة كما كان يلقب بين زملائه في مركز تلفزيون جدة، وكان من أوائل الموظفين الذين تم تعيينهم عام 1384ه تأسيساً للجهاز لينطلق البث في عام 1385ه كأول بث تلفزيوني في المملكة. لقد هجر عمله في البريد هو وزميلاه فؤاد حافظ ومحمد سندي؛ الذي أصبح في ما بعد واحداً من أبرز المخرجين، حيث كانت فكرة افتتاح التلفزيون واعدة بالنسبة لهم، خاصة ما يتبعها من ابتعاث للإحاطة بفن جديد. لقد كان العمدةُ عمدةً بكل ما تحويه الكلمة من معنى وما تشير إليه من صفات، فإن أردتها فصلاً في الكلام فقد كان كلامه فصلاً، وإن أردت بها ما يعتمد عليه في الملمات فهو كذلك بلا منازع، وإن أردت بها شيخ الحارة أو البلد فقد كان شيخ التلفزيون الذي يُجلِّه كلُّ من فيه. هذا المربي صنع القدوة بعمله قبل قوله، وهذه هي أسمى القدوات حين يسبق الفعلُ القول، لأن العجز في مطابقة الفعل للقول شائع عند كثير ممن نحسن الظن بصلاحهم ونصيخ آذاننا لسماعهم، وما أكثرهم للأسف في زماننا، مما يوجب الحذر من (القيطون) إن هام في تسابيحه. ولك أن تتصور أن هذا العمدة الذي كان يقصد عمله من مكةالمكرمة إلى مقر التلفزيون في جدة لم يتأخر في يوم من الأيام على مدار ما يزيد على ثلاثين عاماً قضاها في عمله، لقد صنع بهذا السلوك في جيله ومن تبعه الحياء من التفريط في حق العمل عبر التهاون في الدوام. لم يكن العمدة ليقبل بأي صورة من صور الخلاف بين زملائه، فتراه ساعياً للتقريب بين النفوس ورأب الصدع الذي كان سبب الخلاف وكانت كلماته للمتخاصمين كالبلسم للجراح. يروي أحد زملائه ودموعه تتابع كلامه أن ضائقة حلت به في أواخر الثمانينيات الهجرية ألجأته إلى البيت العتيق، حيث تزول الكروب، وكان العمدة يومها يطوف بالبيت، فلما فرغ أقبل عليه وقد رأى حالة الضيق تعتريه، فقاسمه ما في جيبه من نقود وكانت فرجاً كبيراً له من الضائقة. عندما شرع العمدة في بناء دار له وأخذ المقاول في حفر الأرض تمهيداً لوضع الأساس هوت أرضيات المبنى الملاصق وتحطم ما عليها من بلاط، فما كان من جاره إلا أن تقدم بشكوى للشرطة فاستدعي على الفور، وقبل أن تخوض الشرطة في أمر لا ذنب له فيه تعهد بإصلاح الخراب وأنفق في سبيل ذلك ما يتجاوز ستين ألف ريال كانت كفيلة بتأجيل البناء حتى يجمع المبلغ من جديد، وبعد عشرين عاماً لقيه جاره في المسجد طالباً منه السماح على ما بدر منه فما زاد على أن قال له: المال ذاهب والجيرة أبقى. لقد كان العمدة بقلبه المفطور على حب الخير يتلمس أحوال الفقراء، فما وجد بيتاً تعوزه المعونة إلا وأرسل خطاباً إلى زميل دراسته رجل الخير صالح كامل -رحمه الله- الذي ينفذ على الفور من يدرس حالته ويخصص له من المال كل شهر ما يقيم أودَه. قبل وفاته بأيام اصطحب واحداً من أبنائه في سيارته؛ وهو ابنه أمجد الذي أشبَه أباه وقال له: كنت أكتب وصيتي كل عام وأنا الآن أريدك أن تسمعها، وطاف به على البيوت التي يصلها في رمضان والأعياد وتمنى عليه دوامها. لقد كان لتربيته الدينية أثر كبير على شخصيته وعلاقته بربه وبمن حوله من الأهل والأحباب.. فما كان يتقدم أمرٌ عنده مهما علا على الوقوف بين يدي الله في المواقيت المكتوبة، وكان طاهر اليد، كريم النفس، قليل الكلام، عف اللسان، دائم التفكر، يكفيه من الطعام لقيمات. يختلف الناس في نظرتهم تجاه بعضهم البعض حول درجات الرضا والقبول وذلك أمر شائع، لأن رضا الناس غاية لا تدرك كما يقول الإمام الشافعي -رحمه الله- إلا أن رضا الناس عند العمدة غاية مُدْرَكة بكريم الخلق، ولو كان الشافعي بيننا لرأى أن العمدة استثناء من قاعدته. في عام 1416ه تقاعد العمدة بعد حياة مهنية كانت موضع الإجلال والتقدير تاركاً أثراً بالغاً في نفوس زملائه وأبنائه في العمل. وفي التاسع من ربيع الآخر من هذا العام 1442ه لقي المربي الكبير محمد علي صيرفي وجه ربه. أسأل الله جلت قدرته أن يرضى عنه كما رضي عنه خلقه.