جميلة هي الذكريات التي يقلبها الإنسان في ذاكرته خلال أوقات الخلوة والصفاء مع النفس، تمتزج بالراحة للمواقف الجميلة التي كانت تتكرر دوماً بين الأحبة من الأقارب والأصدقاء، علاقات قديمة انتهت كان عنوانها الوفاء والمحبة قاومت الاندثار رغم مرور الزمن؛ لأنها حفظت بل حفرت في القلوب الصافية التي كانت تتعامل بالود بعيداً عن المصالح الدنيوية الزائلة، الكثير من هذه المواقف وقصص الوفاء باتت في عصرنا الحاضر من الذكريات التي قد يصعب على جيل اليوم تصديقها لكثرة ما فيها من تضحيات وإيثار وشجاعة ممزوجة بالمروءة والكرم، ففي الماضي القريب كان المرء على سبيل المثال إذا داهمته الظروف ووقع في ضائقة مالية يتجه على الفور إلى أعز صديق ليشركه في همه وسرعان ما يجد لديه الخلاص لعلمه أنه قد وقع في ضائقة مالية بسبب ظروف قاهرة لا يمكنه تخطيها، إذ يكون المال لازماً من أجل تعويض خسارته في تجارته التي هي السبيل الأوحد في معيشته أو ضياع ماله أو حلول دين عليه تحمله من أجل حاجة ضرورية كالزواج أو امتلاك منزل، فتجد تلك الوقفة الصادقة ببذل ما لدى الصديق لفك ضائقة من انتخى به لحل مشكلته وليقين من دفع المال لصاحب الحاجة بأنه حريص كل الحرص على إرجاع ما أخذ في أقرب فرصة، فهي كالظل تلازمه وتسكن مخيلته حتى يؤديها شاكراً وممتناً، بعكس وقتنا الحاضر الذي يكون فيه اقتراض المال ليس لحاجة ضرورية قصوى بل من أجل شيء كمالي قد يستغنى عنه العمر كله، مما أوجد التساهل في السداد الذي قد يطول إلى سنين ويكون سبباً في انقطاع العلاقات بين الأصدقاء تطبيقاً لمقولة حكماء الأمس من جيل التجربة: «إذا أردت أن تفقد صديقاً فأقرضه»، فالخصام سيحصل، فإن طالبته بمالك غضب وسخط، وإن تركت المطالبة ضاع ونسي. مطالبة بالمال ويعج عصرنا الحاضر بآلاف الأمثلة التي نشاهدها من تزايد قضايا المطالبة بالمال من قبل الدائنين، والتي لم تجد إلى الحل سبيلاً سوى بالمطالبة بذلك في أروقة المحاكم التي غصت بها، فكثر الموقوفون الصادر بحقهم إيقافاً للخدمات بسبب المماطلة أو وعدم القدرة على السداد، ويتساءل الكثيرون لماذا قلّت أو ربما اندثرت تلك الصفات والتضحيات الجميلة في عصرنا الحاضر الذي فيه من الرفاهية وسعة العيش والتطور ما هو كفيل بتعزيزها والحفاظ عليها؟ ولعل أقرب طريق للجواب هو تصفح ما عليه الناس من تباعد وتفرق رغم وجود التقنية الحديثة التي فيها فرصة أكبر للتواصل من ذي قبل بفضل أجهزة التواصل الاجتماعي التي بات لا غنى لصغير أو كبير عنها في حياته اليومية، فقد باتت كالعينين التي يرى بهما الأحداث اليومية ومستجدات الحياة، إضافةً إلى انصراف الناس بالاهتمام بالكماليات التي أفسدت عليهم حياتهم وكلفتهم ما لا يطيقون، وكذلك الحرص على تفقد الأقارب والأصدقاء والسؤال عنهم وترك الصرف ببذخ على ما لا فائدة منه كالمبالغة في مصروفات الولائم في الأفراح والمناسبات والتباهي فيما بينهم في إظهار الكرم طلباً للشهرة الزائفة التي تجعل المرء يعيش في دوامة الحاجة والعوز وتسديد الديون والقروض من أجل مظاهر كذابة كامتلاك منزل كبير بأثاث عصري مكلف وسيارة فارهة، وصرف ما يزيد على الحاجة في تلمس الفقراء والمحتاجين من أقرب الناس كالأقارب والجيران والأصدقاء. وفاء وصدق وفي قصة حقيقية يرويها شيخ كبير يقول فيها: كنا في حدود العام 1370ه رعاة إبل نجوب الصحراء، وصادف ذات رحلة أن اقتربت مؤونتنا من النفاد، ونحن آنئذ بالقرب من مدينة عنيزة، وكنا مجموعة رعاة، ولم يكن مع أحد منا ريال واحد، وأيضاً - لسوء الحظ - لم يكن معنا ما نقايض به كأن نشتري تمراً بسمن أو إقط، فاتفق الجميع أن أنزل وحدي إلى عنيزة، وأن أتلمس أحداً من تجارها يقرضنا إلى حين ميسرة، فنزلت سوق عنيزة، وبدأت أتفرس وجوه الرجال أصحاب الدكاكين بحثاً عن تاجر أتوسم فيه المرونة في ذلك الزمن الشحيح، فهفت نفسي إلى رجل منهم توسمت في سيمائه الخير والمرونة، فسلّمت عليه، ثم قصصت عليه خبري وخبر جماعتي، فقال التاجر: لو كنتَ وحدك لأعطيتك ما يكفيك، ولكنكم جماعة تحتاج إلى ما لا يقل عن أربعين ريالاً، وهذا يضر بتجارتي، فضلًا عن أني لا أعرفك، فاحترتُ ما أقول له فقد كانت حجته قوية، ولا يرضيني أن أضر به، وأنا تتقاذفني الصحراء من فج إلى فج، ولا أدري متى سأعود إليه، عندئذ ألهمني الله أن أذكر محزم الرصاص الذي كنت ألبسه، فقلت: خذ هذا المحزم، فيه 10 أمشطة، تساوي أربعين ريالًا، هي لك بعها إن لم أعد بعد شهر إليك، فارتاحت نفس التاجر فقال: اتفقنا، خذ بقيمة الأربعين ريالاً ما شئت من التمر وموعدنا بعد شهر إن عدت، وإلاّ بعت هذا المحزم واستوفيت ثمني منه، فأخذت التمر، وعدت إلى رفاقي، ثم - كما العادة - دفعتنا الصحراء إلى بطنها فمضى الأجل الذي بيننا، وقلت في نفسي: الرجل أخذ حقه، فلتطب نفسي، وبعد أن تقلّبت بي الحياة ظهرًا لبطن تركت الصحراء، وعملت سائقاً في شركة أرامكو، ثم صرت سائقاً يقوم بإيصال السيارات الجديدة من الميناء إلى وكالاتها، وبعد قرابة العشرين عاماً ذهبنا ومجموعة من السائقين بحملة سيارات من الميناء إلى القصيم لإيصال سيارات إلى وكالة لبيع السيارات، وكانت السيارات ذلك الزمن تحتاج إلى التبريد - والتبريد هو أن توقف السيارة فترة حتى تبرد مع رفع غطاء ماكينتها -، فتوقفنا في أطراف عنيزة لتبريد سياراتنا، ونزلت أتمشى في بعض بساتينها، فلقد تغيّرت عنيزة، ولك أن تتخيل ماذا فعلت الطفرة بالمدن السعودية، وفيما أنا في تلك المزرعة إذ بصاحبها يقترب مني ويسلم علي، فسلمت عليه وأخبرته أننا مجموعة من السائقين نبرّد سياراتنا، وأني دخلت أتمشى هنا، فقال صاحب المزرعة: قل لأصحابك ألا يطبخوا شيئاً للغداء، وأخبرهم بأنّ غداءهم عندي هنا في المزرعة، فاعتذرت قليلًا فألحّ كثيراً، وفيما أنا أتمشى معه في المزرعة خطرت لي قصة محزم الرصاص وذلك التاجر، فقلت له: يا عم: لي عن عنيزة عشرين سنة، ولي فيها قصة هي كذا وكذا، ورويت قصتي مع التاجر والمحزم، فقال الشيخ صاحب المزرعة: هل تذكر شكل هذا التاجر؟، قلت: لا، فقال: هل تذكر علامة فارقة تذكرك به، فقلت: بجوار دكانه نخلة، فقال الشيخ: لقد وصلت وأتى الله بك فقد كنت أنتظرك وكتبت أمرك في وصيتي وذاك أني بعتُ محزم الرصاص بخمسين ريالاً، وهذا هو ثمنه الحقيقي، فأدخلت العشرة ريالات لك في تجارتي، وقد نما لك منها شيء، ثم سحبني من يدي وأخذني إلى فضاء واسع في المزرعة مليء بالأغنام وقال: هذه الأغنام كلها لك يا بني من عشرة ريالات قبل عشرين سنة، فاعترتني رعشة من أمانته، فقلت: لا آخذ شيئاً، فقال: والله لا أتركك، فقلت: إذًا فهي بالنصيفة بيننا لترضى، فقال: كما تريد، فقد أزاح مجيئك عني هماً طويلاً، انتهت القصة ولم تنته علامات التعجب من أمانة التاجر ومن صاحب المحزم التي تضرب أروع الأمثلة في الوفاء والصدق والأمانة والسخاء. مروءة وشهامة وكثيرة هي المواقف التي يتناقلها جيل اليوم عن جيل الأمس القريب الذي ضرب أروع الأمثلة في الحفاظ على الود والإخاء وذلك ببذل كل ما يملك من أجل الوقوف مع أخيه وقريبه أو صديق عمره أو مع جاره، فمن المواقف الجميلة التي تروى أنه كان هناك رجل يعمل في مزرعته الصغيرة قديماً وكانت الطريقة المتبعة في إخراج الماء من البئر هو عن طريق سحبها عن طريق البهائم كالثيران أو الجمال (السواني)، ولم يكن عنده إلاّ جمل واحد يستخدمه في إخراج الماء من البئر لري مزروعاته التي من منتوجها يأكل ويبيع الباقي ليسد به حاجته من الكماليات، وفي أحد الأيام مات الجمل الذي يستخدمه في السقيا ويعتمد عليه في زراعته فلم يجد بدلاً من الذهاب إلى أخيه الذي كان يملك جملين في مزرعته، فلما وصل إليه وأخبره بمعاناته قام بفك أحد الجملين وأعطاه لأخيه هبة وبنفس راضية، وقال له: يكفيني جمل واحد، فخذه ولا ترد بدلاً عنه فأخذه وانصرف شاكراً. وفي موقف مماثل فقد عزم أحد الرجال إلى السفر لطلب الرزق بعد أن ضاقت به السبل ولم يجد عملاً، ولما قالت له زوجته وأولاده: إلى من تتركنا وليس لدينا ما نقتات منه؟، قال لهم: توجهوا إلى جاري فإنه سيعطيكم ما يكفيكم، وبالفعل وبعد سفره توجه أحد الأولاد إلى جارهم طالباً ما يسد رمق جوعهم وأخبره برحيل أبيه وطلبه التوجه إليه ليعطيهم ما يكفيهم، فدخل الرجل إلى بيته وأحضر بعضاً من التمر والدقيق والسمن وقال لولد جاره: كلما احتجتم إلى شيء فتعال لأعطيك، واستمرت الحال إلى عدة أشهر ورجع الرجل وقد كسب ما يكفيه وذهب إلى جاره ليشكره على صنيعه وليعطيه بعض ما كسبه من مال، فأبى الجار وقال: أهلك كأهلي ولن آخذ منك شيئاً فالجار للجار، وتتعدد المواقف والقصص التي تحاكي ذلك وكلها تدل على المروءة والشهامة والكرم. عودة إلى الترابط وما أحوج الناس في يومنا هذا للعودة إلى الترابط والتآخي في ظل اتساع دائرة الرزق وانتشار التقنية التي خدمت الكل وساهمت في بحبوحة العيش والراحة، واستخدام ما أفرزته الحضارة المعاصرة من تقدم، وخصوصاً فيما فيه ترابط أسري وأخوي بين الجيران والأحبة كوسائل الاتصال الحديثة وتطبيقات التواصل الاجتماعي من أجل الوصل فيما بينهم، ليتفقد الأخ أخاه والجار جاره والصاحب صاحبه، إضافة إلى التوسط في كل شيء وعدم حمل النفس ما لا تطيق من تكاليف المعيشة المرهقة والصرف على قدر الحاجة كما يقول المثل: «مد رجليك على قد لحافك»، حتى إذا ما أتت إلى أي شخص أزمة وخصوصاً مالية يجد من يقف معه حيث يكون ما عليه من دين لحاجة ضرورية قد استدان من أجلها، وأخيراً ترك الانخراط في تتبع المظاهر وتقليد الآخرين ومحاكاتهم وخصوصاً من مشاهير «السوشل ميديا» و»السناب شات» الذي ينتج عنه عدم الرضا بالمستوى الاجتماعي الذي يعيشه، ومحاولة التقليد في الولائم والسفر خلال الإجازات مما يحمل الأسر ما لا تطيق ويقذف بها في مهاوي الحاجة والفقر والدين. جيل الأمس عاش أجمل لحظات العمر بعيداً عن تبعات التقنية تفقد أحوال الأقارب سمة جيل الأمس الإنفاق بقدر الحاجة ساهم في العيش بواقعية بعيداً عن الديون صرف المال على الكماليات عادة سلبية في المجتمع حالياً زمن البساطة خلّف مواقف تروى حتى الآن التقليد ومحاكاة الآخرين أوقعا الكثيرين في مشكلات الديون محاكاة الآخرين في التسوق مشكلة تواجه أفراد جيل اليوم