تجربة مشاهدة فيلم (الأب)، قد تكون استثنائية وممتعة، بقدر ما هي محزنة، خاصة لهؤلاء الذين فقدوا أحبابهم (مثلي) بفعل هذا المرض العقلي، ولهؤلاء الذين يحبون التفكير في ماهية الإنسان. وكم هي هشة مثل قشة في مهب الريح أمام قوى الطبيعة الغادرة. وأنت تشاهد (أنتوني هوبكنز) وهو ينقل لنا بإتقان لافت ارتباك وضياع مريض (الزهايمر)، تتساءل في لحظات: هل يمثل (أنتوني هوبكنز) حقاً، أو هذا الرجل العظيم فعلا أنهار بفعل الشيخوخة وفقدان الذاكرة. نوع نادر من التقمص، حيث يتقمص الممثل الشخصية، وتتقمص الشخصية الممثل. قمة الإبداع، التي تجعلك تود أن تمد يدك لتحتضن الرجل الواقف أمامك على الشاشة، لتطمئنه وتواسيه، وتشعره بشيء من الأمان. وحين تعجز، تبكي لبكائه، وهو يرتجف تائهاً خائفاً من الناس مذعوراً يردد: «أريد أمي.. أريدها أن تأخذني من هنا.. أريد أن أذهب إلى المنزل». عدت بعد الانتهاء من ذلك الفيلم الإنساني، الذي يحكي عن معاناة لا يعرف حقيقتها إلا من مر بها، عدت إلى اليوم الذي كاد أن يغمي عليّ وأنا أرى حماتي (مي دينك) تدخل عليّ شاحبة كالشمس في (فينا) محاطة بممرضتين، وتأخذ مكانها مقابلة لي ولا تعرف من أنا..! لم تلاحظ دموعي وانا أقبلها. يومها بكيت وأنا أراها تنسحب برفقة ممرضتين، وما زالت تحمل الكبرياء نفسه..! شعرت بمزيج من المرارة وسقوط الروح. لم أتخيل أبداً أن تلك المرأة الحديدية التي كانت طوقاً بديعاً من الحضارات.. المرأة التي تحدت الزمان، مغادرةً مسقط رأسها (فينا)، لتستيقظ ذات صباح وإذ بها زوجة، وأم لثلاثة صبيان، وثلاث بنات، وطباخة وغسالة، وجلاية، ومربية، وصيدلانية، وطبيبة، ومعلمة لأهالي الطائف. تقوم بتطعيم طفل صباحاً، وتساعد امرأة على استقبال مولودها ليلاً، المرأة ذات المائة لقب، وألف مهنة. كانت تجيد الألمانية، والإيطالية، والفرنسية، والإنجليزية، والعربية.. كانت حالة تعددية، وقدرة على أن تعيش داخل أكثر من امرأة. زهرة من زهور الأرض، فيها ما في زهور الأرض من ثراء لوني، وتنوع، لطيفة كوجوه الأصدقاء، وعتيقة كفانوس في حي قديم. كنت أعتقد أن اللوثة الوحيدة التي أصابتها هي العشق لكل ما هو عربي، لم أكن أحسب (للزهايمر) اللعين أي حساب. فامرأة لديها ذاكرة بحجم الكون، من الصعب أن تصبح غير قادرة على تذكر أبسط الأمور، وأن تجد صعوبة في إكمال عباراتها. تلك التي كانت عباراتها شرائط ملونة، وأكوام سكر لامع. كانت حنونة على أحفادها، دافئة كبيضة وضعتها حمامة للتو، قبل أن يتعالى هديلها. لحظة قاسية فعلاً، فليس أقسى على الواحد منا أن يعرف أنه يغيب، ويتعود هذا الغياب. وليس أكثر إيلاماً من أن تُختزل الحياة في لعبة أنت مفردها. وكل الحزن أن تكون محترفاً للذكريات، وتعجز عن تحديد متى كان مولدك. وغاية الوجع أن يطغى على نبرتك الارتباك، ويختنق صوتك، وكأنه يخرج للعالم للمرة الأولى. وحده الحنان، والعطف، والحب، بإمكانه ترميم عمق مريض (الزهايمر). ليس هناك دواء لهذا الإنسان الذي هو في حالة هجران مع الواقع، أفضل من شعور الآخرين به، وحبهم، ومعاملة روحه بكرامة. لا شيء يعادل منحه صدق المشاعر، فهو بحاجة إلى ذلك أكثر من حاجته للقمة خبز. أجمل هدية يمكنك تقديمها لهذا المنتحر روحياً أن تكلمه دائماً، وبصدق عما يسره. فالأرض لا تروى بالينابيع الجافة. تذكر الحكمة الصينية وأنت تتعامل مع هذا المريض: «الكلمة الخارجة من القلب تبقى دافئة طوال شتويات ثلاث»، كنت أداعبها ونحن في طريقنا للمحكمة مع السيد (محمد إقبال بكر علوي) ابنها البار، لأخذ موافقة القاضي (النمساوي) لاصطحابها معنا لخارج وطنها (حيث إنها في حالة لا تمكنها من اتخاذ قرار) قلت لها: «كنت أعتقد أن الجميلات لا يشخن»! كان وجهها يصطبغ بالحزن، ضحكت، وانتهت ضحكتها بالبكاء الصامت.. كانت تردد الأسئلة ذاتها، مرات ومرات، ومرات.. من دون أن تدرك ذلك. كانت تنسى باستمرار ان ابنتها توفيت، وأنني أبلغتها بالنبأ السيئ مرات، ومرات. في كل مرة كانت تدرك أنها فقدتها تنظر إليّ بحزن، وتسأل: هل كنت هناك عند وفاتها؟! قال لنا القاضي: إلى أين ستأخذونها؟ وطنها أحق برعايتها، هذه امرأة صالحة أعطت وطنها عمراً، فكيف يبخل عليها الآن وهي في أمس الحاجة إليه..! قلت له: لكنها حمامة تسكن في قبة مسجد، ووصيتها ان تقيم بجوار البيت الحرام.. فهل تحرمها أن تسْكُن ذاتها..؟! قال: بالطبع لا.. وفي أول زيارة اصطحبتها للبيت العتيق دغدغ اللقاء ذكرياتها.. كان قلبها يرقص مع خطواتها.. التفتت اليّ، ودمعة في عينيها، وهمست لي بهدوء: الحمد لله. نعم الحمد لله.. فبعد بضع سنوات توفيت في مكة في العشر الأواخر من رمضان، وصُلي عليها في الحرم المكي الشريف.. ودفنت في المعلاة. اللهم ارحمها رحمة تسع السماوات والأرض، واجعل قبرها روضة من رياض الجنة. اللهم اجمعنا بجميع موتانا في جنة النعيم.. إنك على كل شيء قدير.