كان صوت الموسيقى عاليا حينما بدت المدينة تغرق في أحلامها، صوت موسيقى جوكوكر لأغنيته المدهشة «sorry seems to be the hardest word» تسرق كل الغيوم لتضعها بأيدي العابرين عبر أنهار مدينة البندقية التي كانت ترتدي ثوبا طويلا كلما اقترب من جسدها أحد هربت إلى الزوارق وبعض الفنادق القريبة لتضحك بغنج ثم تدس قدميها في النهر من جديد بعد أن تجرب تراقص الأمنيات وتصفق للنجوم العابرة. فإذا تذكرت بأنها فاتنة الحب أدخلت أصابعها بداخل خصلات شعرها المتناثر لتبدده بشدة وكأنها تجرب أن تزيد إغواء العشق بداخل العاشقين. كان هناك في تلك اللحظات طرقات طويلة جدا تحدق بنا، وجوه الغرباء مستفزة لمزيد من الكلام، ورائحة المقاهي المتناثرة قريبا من تلك الضجة كانت تزيد من رغبة الصمت، وحده القلب كان يعرف ماذا يفعل كل ذلك التوق بإنسان جاء وحيدا ليلتقي بآخر يشبهه أو ربما هو بعد طول غياب. كان ذلك القلب يحسن كيف يلامس موسيقى «جوكوكر» الساحرة، وكان يضع على كل نفق يخرج منه قنديل يضيئ تلك العتبة الكاسرة التي تتسلل إلى نوافذ المباني القديمة لترمم الثقوب العميقة تلك. في مدينة البندقية.. دخلت امرأة تحسن جمع الأصوات في أوراقها من متاهة الشوارع المحفزة لمزيد من البوح وحينما تعود إلى المنزل تفرغ تلك الأصوات في حبر قلم يعرف كيف يقول كل شيء عن أي شيء، هناك أدخل الشمال لألتقي بالروائي محمود التراوري والروائية الجزائرية فضيلة الفاروق ولنجرب أن نغرق في مصيدة البوح ولنعترف بأوهامنا ثم نعيش حالة السلام تلك. * على طاولة موجودة على أطراف مقاهي ممتددة على طول نهر في مدينة البندقية شمال إيطاليا.. نجتمع «أنا عبير» «ومحمود» و»فضيلة» لنجرب أن نشتري لأنفسنا هدايا الشتاء قبل أن تنفد.. * أتناول ملعقة الشاي. أضرب على حافة الفنجان بشكل خافت جدا مع موسيقى جوكوكر التي كانت تملأ المقهى حنينا ورغبة في الإعلان عن الاعتذار الصعب.. محمود يحاول أن يسرق نظرة خاطفة كمن يحاول أن يخفي رغبته في العيش في تلك اللحظة المتناهية مع الموسيقى، فيما تستسلم فضيلة لحالة النشوة تلك بمحبة وابتسامة دافئة.. فضيلة الفاروق عبير: ساحرة هذه الأغنية.. أظن بأن «جو كوكر» يجرب أن يحكي عن القلب حينما ينغلق بعد أن كان مفتوحا.. أو ربما تنغلق أمامه السبل فيشعر بحيرة الكلمة التي لم يقلها بعد.. إنها الفكرة التي تدور حول أكثر لحظة يمكن أن يكون فيها المرء صادقا مع نفسه حتى يكون صادقا أيضا في الحب.. أعتقد بأنني أعيش شيئا من ذلك.. حينما يتيبس الكلام على شفاهنا ويمضي الوقت دون أن نقول ما رغبنا أن نقوله دوما.. نعم.. ربما ليس هناك أصدق من أن تكون أنت في كل الأحوال، أن تعرف كيف تعود لذاتك في أكثر الاوقات التي يصعب فيها أن يعود البعض إليها.. ولكن الحياة تتطلب الكثير من الصمت والقليلا من الكلام. * أنظر إلى محمود الذي كان ينظر إلى فضاء المكان وروحه تتوق إلى فوضى الموسيقى. وأقول: أليس كذلك يا محمود؟؟ * يرفع رأسه محمود نحوي يبتسم.. ثم يقول: أصبتِ عبير، أنا ذلك الرجل الذي لا يحسن سوى الصمت، ذلك الطفل الذي رضع «قل خيرا، وإلا فأصمت». أما أن أكتب، فهذا متروك للآخرين، لا أعرف إن كنت ما أكتبه حسن، أم حسين حتى. تسأليني عن الصمت، فأخمن أنه متوارث، أبي كان رجلا قليل الكلام، جدا، وإن تكلم فكلامه له مهابة وقيمة -رحمه الله- لا أريد أن أفيض في الحديث عن والدي، فهو له وقت آخر. يمكن أن يتماهى مع عظمته عندي، لذلك سأذهب، لتخمين سبب -أظنه سيكولوجي- مضاف، لهذا الصمت الذي وسم شخصيتي، وأذكره لأول مرة.. في طفولتي المبكرة، وأنا بالصف الأول الابتدائي، قتل جار لنا، جدار بيته يلتصق بجدار بيتنا، وكان أعزب «مغترب يمني»، وضمن تحقيقات الشرطة، للكشف عن المجرم القاتل، أتوا بي شاهدا ضمن شهود القضية، السقاؤون، دخلوا دائرة الشبهة، وفي تلك الأيام منتصف السبعينيات الميلادية، كان السقا لازال يلج البيوت، كل صباح، في معظم أنحاء مكةالمكرمة، وذات صباح كان الموعد المشهود، قرابة 30 سقاء، جمعتهم الشرطة في غرفة واحدة ليدخل عليهم صبي اسود في السابعة من عمره، ليحدد. المرأة المستحيلة هي نصفك الذي تكتمل به لتكون إنساناً جميلاً وبشراً سوياً أحب أن ألتقي بذلك الذي يجيد التخفي بأشواقه المتعبة بحومة مزمار كان معي ضابط، يعاملني بأبوة فياضة «مين السقا حقكم يا ولدي»؟ فاختار وجها أعرفه جيدا، فأنا من يفتح له الباب، كل صباح، ليدخل بزفته، ويفرغ الماء في الأزيار والبراميل. أما الورطة فكانت مع تحديد سقاء جارنا القتيل! فعلى مدى ثلاث مرات يدخلني الضابط عليهم ويخرجني، أعود في كل مرة أختار وجها مختلفا، ما أثار حيرة الضابط أو حنقه، لا أدري، لأنني في تلك اللحظات، بدوت أخاف من نظرات السقائين الحادة في أغلبها، وأخذت عيناي تغروقان بالدموع، فأخذني الضابط لمكتبه، حيث أمي، وأبي، اللذين شملهما التحقيق. وقدم لي أنواعا من الحلويات والبسكوتات، غير أني، لم أجد ملاذا آمنا، سوى حضن أمي، التي فتحته لي، ومسحت على رأسي، وهنا أعلن الضابط أن مهمتنا انتهت، وقال لأبي «خلاص يا عم ابراهيم تقدر تمشي انت وأهلك». هذه الحادثة بتفاصيل أخرى لم أذكرها، عشتها على مدى أسابيع طويلة، من مرابطة العسكر، حول بيتنا، وتقديمي الشاهي لهم صبحا ومساء، ربما تكون قد تركت تأثيرا ما في نفسي، ما هو شكل هذا الأثر، لا أعرف، لكنني الآن أرجح، قد يكون الصمت.. ولا شيئ سواه. عبير: وبرغم ذلك.. تجارب قليلة في الحياة تكفي لأن نقول شيئا ما.. تجارب بسيطة أو ربما صعبة تكفي لنتعلم، ولنبقى خلف الحكاية التي تنسجها الحياة دون توقف.. سواء كنا بشرا معقدين أو بسطاء فهناك دوما مانحلم به. مانحبه. مانتوق إليه.. ما نغامر لأجله. ضفة عالية جدا سنقفز من فوقها حتى نعيش تلك اللحظات.. * فضيلة وهي تتناول بعضا من قطع السكر وتضعها في الفنجان.. فضيلة: الثبات مصيبتنا في العالم العربي، وكأننا مجتمع لا يملك مخيلة، حين قررت أن أترك الجزائر إلى بيروت ضحك معظم أصدقائي علي، كنت أتحدث عن بيروت وهم يضحكون و يرددون أني مجنونة، فلا الإمكانيات المادية تسمح لي بالسفر آنذاك ولا وضع لبنان الذي خرج من الحرب مدمرا. و مع هذا قفزت قفزتي نحو المجهول من أجل التغيير، و لم أحمل معي سوى إيماني الكبير بالله، و عزيمتي و مواهبي... كل سفراتي فيما بعد كانت قائمة على هذا الأساس، أعتمد على نفسي و أقفز: لندن، نيويورك، أورلاندو، كولورادو... وكل الأماكن التي حلمت برؤيتها، وأثرت داخلي ومنحتني ثقة كبيرة في نفسي. الثبات في مكان وحيد يعني لي الموت. محمود: أظن اتصالا بالحكاية التي رويت، تبدو فكرة المغامرات، غير متسقة مع تكويني النفسي، وأتصور أنني وجدت في الكتابة أرضية خصبة تقبل بي في خوض ما تسمينه مغامرات، الهدوء والسكون أيضا من أبرز السمات التي ورثتها من والدي - رحمه الله- واشقائي، كانوا يقولون إنني الأكثر شبها به، لكني مؤمن أن شتان، فيما يتعلق بسلوكه وأخلاقياته العظيمة. العجيب أنني في طفولتي وجزء من مراهقتي كنت صاخبا، إلى حد ما، الهدوء والسكون، حلا في مرحلة ما بعد البلوغ تقريبا، وأخذا يكبران مع مرور الوقت، مع التقدم في العمر، يحدث أن تتأمل أكثر لتتخلص من كل ما تراه عيوبا، كاللجلجة والثرثرة، وهي من أبشع السمات إن ميزت أي مجتمع، خاصة تلك النوعية من الثرثرة التي تخوض في الشخصنة والانشغال بالآخرين، في ظل دوائر من الكراهية، والتعالي والاستخفاف، وما إلى ذلك، من نقائض لأساسيات الدين وقيمه الاخلاقية الجميلة التي يحض عليها وهذا أمر مؤسف، بقدر ما هو محير في آن. لا أكترث بغياب ذلك الوغد لأنني أدرك تماماً ماذا أعني له وماذا يعني لي لا أريد أن أتورط في الحنين أكثر فأنا لا أجيد القفز أبداً الشجاعة والجرأة أدخلتاني في حروب وخلقتا لي أعداء كنت في غنى عنهم قفزت نحو المجهول فالثبات في مكان واحد يعني لي الموت العيش في سلام خرافة بعيدة عن منطق الصراع وتنازع القيم واجهت ذلك الحزن الطويل بالضحك والابتسامة المتألمة صديقي الناقد المصري الدكتور أيمن بكر، تفاهمت معه مرة، حول ظواهر سلبية كثيرة في مجتمعاتنا العربية، وتوصلنا إلى أن من الأشياء الجيدة لمقاومة وطأتها، الاستغراق في تأمل الظاهرة، ومحاولة تحليلها علميا، وفق كل السياقات. الاستغراق في التأمل، يفضي بك إلى بدايات الفهم، ومحاولة تفكيك هذا العالم الذي بات معقدا في كل لحظة، وعصيا على الفهم، وربما ايضا تمنحك القدرة على تمييز مواطن الجمال المختبئة هنا وهناك، والقلب لا يأبى الجمال، أيا كان منبعه. * يتناول روايته «ميمونة» من الطاولة وهو يقول: المهم الآن يا عبير أنني لا أجيد القفز أبدا!، ربما يكفيني أن أتسلل إلى حيوات أخرى خلسة، لأن الحنين عادة يمزقني، وأنا لا أريد أن أتورط في الحنين أكثر، مقاومة الحنين بقدر ما فيها من عذابات، تمنحني على صعيد الروح امتلاء وسلوى، لا أريد أن أتمزق هناك، في حيوات لا أعرفها. * أميل برأسي ناحية النهر والزوارق.. أسنده على باطن كفي.. ثم أعلق: شبعنا حزنا... أظن بأننا بحاجة للفرح.. أشتهي أن أضحك من قلبي كثيرا.. لقد وضعت أصبعي في صدر الحزن وقلت له «ذلك يكفي».. ألا يحق لنا شيء من الفرح والضحك؟ فضيلة: يرافقني الحزن من ولادتي، وحكايتي معه طويلة، لكني معروفة جدا بين أصدقائي، كثيرة الابتسام والنكتة والسخرية... وحيثما أكون أفتح سجالات حديث ونقاشات وضحك. عشقت التمثيل وأنا صغيرة، ولأن الظروف منعتني من ممارسته فأنا أمارسه مع الأصدقاء...أظنني كسرت أعتى موجات الحزن التي اجتاحتني، وبالمناسبة أنا أعاني من إكتئاب مزمن جرّاء التجارب المؤلمة التي عشتها في حياتي، فأنا أخذت من حضن أمي وأبي ومنحت لعمي وزوجته وأنا طفلة، ربياني حتى ظننت أنهما أهلي الأصليين، تعلقت بهما جدا، وفي الخامسة عشرة لن يتقبل أبي الذي تبناني جنون مراهقتي فيعيدني لعائلتي البيولوجية، كانت تلك أول صدمة في حياتي، ولم تمر بسهولة علي، دخلت إثرها طيلة سنة كاملة في نوبة حزن جعلتني أفشل في امتحانات الباكالوريا، مما جعلني أعيد السنة، أجبرت على دخول كلية الطب التي أكرهها، وغادرتها أيضا بعد خسارة سنتين فيها، وحين ظننت أن حياتي بدأت تستقر ضرب الإرهاب الجزائر، ودخلت في دوّامة المذابح وتصفية المثقفين خلال التسعينات، قتل زملاء لي فلم أتحمل، فشددت الرحال نحو بيروت، وبعدها تزوجت لبنانيا لم يكن بالزوج المثالي الذي يحترم الحياة الزوجية، فدخلت في دوامة جديدة من الصراع معه وتسلطه... ولم يكن سهلا أن تواجه امرأة وحيدة بدون سند العائلة زوجا ظالما وتفرض نفسها ككاتبة، خاصة أن الإعلام العربي في غالبه فتح النّار علي وروّج لي بأسوأ الصفات... * تصمت.. تزدحم عينها بالألم.. تطلق تنهيدة عميقة من صدرها ثم تكمل: ومع هذا كل يوم أصلي، وأشكر الله عزّ وجلّ لأنه أدخلني تجارب حياتية متنوعة وسلّحني بالإيمان، وجعلني أتخطى كل مرحلة بمزيد من النجاحات. إلى يومنا هذا أنا بارعة في إضحاك من حولي، والبسمة لا تغادر وجهي أبدا. محمود: أتصور أن الحزن قاعدة، والضحك استثناء، استنادا لموروث ديني عميق في هذا الاتجاه، كون وجداننا، وصاغ تصوراتنا. الضحك في موروثنا الثقافي شبه مذموم، ثم نصوص كثيرة في تراثنا تقول بهذا. لكن رغم ذلك نضحك، بالله كيف لا نضحك لابتسامة طفل مشبعة بالصدق، والايمان بالفرح أظنه ضرورة من ضروريات الحياة، المجتمعات التي لا تعرف الفرح، لن تعرف الإبداع والسمو بأنفسها، بل يملؤها التعصب والاحتقان!! لا أتخيل ألا أفرح بتواصل عزيز ملؤه القلب، ببهجات صغيرات، في خلسة من جهامة الوقت وقتامة الطرقات، تغمس في شرايننا وردة، يخلقها أصدقاء حقيقيون، يتحلقون حول دوائر من حب مصفى! وإن كانت حكايتنا مع الحزن طويلة – طبقا لتعبيرك يا عبير- نظل نفتش عن كمائن الفرح، أنى وجد، ومصبات الضحك حيثما اختبأت تمنعا ودلالا، فحرام أن نسفح حيواتنا هكذا بلا ضحكات، تبقى عنوانا لجراحنا العظيمة، ودلالة على أننا بشر نستحق الحياة والابتهاج بها كنعمة من نعم الله. عبير: فإذا العيش في الحياة يتطلب التكيف.. ويتطلب أن نكون جاهزين دوما لها ولكن ما معنى أن تعيش الحياة في سلام دائم؟ وما الذي يصنع الانسان.. الحروب التي يقاتل فيها من أجل مايؤمن به؟ أم حالات السلم التي يحب أن يبقى تحت ظلها؟ فضيلة: بالنسبة لي وحده الإيمان بالله وبرحمته أهم لبنة لبناء سلام دائم. فكل الصراعات القائمة اليوم إنما تقوم على أطماع بشرية، الخالق -عزّ وجلّ - منحنا كوكبا رائعا لنعيش، وفي كل ذرة منه حولنا معجزة ربّانية تستحق التأمل، وصدقيني لا أفهم أبدا سبب هذه الحروب، وهل يستحق ما في هذه المحطة المؤقتة إراقة كل هذه الدماء. لو أننا فقط ندخل في رحلة داخلية لتأمل معجزات الخالق، ونتعامل معها بحب ومع من حولنا بمحبة وتسامح لتحقق لنا السلام الذي نحلم به. محمود: أنت هنا – يا عبير - تطرحين سؤالا جوهريا اشكاليا، بما لا تسعفني قدراتي المعرفية على مقاربته، لكن مما خبرت في عمري القصير، العيش في سلام دائم، يبدو خرافة، تتضاد مع المعتقد، ومنطق الأشياء، وإلا لما امتلأ تراث الإنسانية، بكم هائل من الحكم والأمثال والشعر الذي يبكي الحياة، واتجاهات أخرى تحض على القناعة، والرضا بالمقسوم، وما إلى ذلك. السلام الدائم، وهم لا يستقيم، والمنطق الدرامي الذي تتشكل منه ايقاعات الحياة، منطق الصراع، تنازع القيم، الفرز، وصولا إلى الحساب والعقاب، ومن هنا تبدأ لعبة الحياة، بتأطيرها داخل منظومة قيم وقوانين، هي نتاج مجتمع مدني متعال على النزق، والكسل المعرفي، مجتمع يعرف درب الشمس جيدا، ولا يكتفي بهذه المعرفة، بل يسعى لسبر أغوارها. المعرفة هي ما يصنع الإنسان أولا، انظري بتمعن لخطابنا القرآني، وتأملي كيف خاطب العقل، وحض على إعماله، هو والفكر، ولكن، حينما نصل لتجريم من يفكر ويعمل عقله، تتوقف صناعة الإنسان وبالتالي قتل مجتمعات بكاملها. * يقترب من الطاولة النادل.. يضع قدحا من الماء. وبعض المناديل التي رُسم عليها نجوم مشعة.. عبير: نجوم جميلة.. تبدو كتلك التي نشاهدها معلقة بأقدام الأحلام.. أذكر بأنه في يوم ما وقعت عيني على نجمة تحمل نورا كلما نظرت إليه حرك بداخلي أنهارا تسحب مع تدفقها الأمنيات الوردية.. جميلة هي النجوم.. وربما يتطلب إقتنائها ثمن.. محمود: النجوم هنا، تبدو مجازية، والمجاز أحيانا يكون مرهقا، خاصة إذا ما كان طريقا نحو الطفولة، المرحلة الوحيدة التي كنت أبصر فيها نجوما حقيقية في السماء، وقتها حين كنت أبحلق فيها جيدا، وأنا على فراش النوم، كنت أرتعب أحيانا، وأنا أسترجع ما اكتظت به طفولتنا من أساطير وحكايات خرافية، ومنها ما يتعلق بالنجوم، كان الطلب الوحيد، منا هو أنه إذا جافاك النوم، فعليك بعد نجوم السماء، ومطاردتها، حتى رقم معين، قيل لنا أن من يتعداه ينخطف بصره. وتحت ضغط نفسي رهيب لا تصل للرقم 10 إلا وأنت في «سابع نومة»، كنت أنام يا سيدتي، ولم أقطف نجمة واحدة، حتى أعرف ثمن النجوم! * ترتفع أصواتنا ضحكا.. فضيلة: كل النجوم التي قطفتها مثل فاكهة تتدلى من شجرة باسقة العلوّ، ناضلت من أجل بلوغها، أنجبت إبني الوحيد «طارق» وهو كنزي الثمين فعلا، وكل إنجاز في حياتي لم يأت بسهولة، هناك قاعدة قدرية لاحقتني دوما وهي أني يستحيل أن أحصل على شيء دون أن اجتهاد وكدّ وجدّ. عبير: أما أنا فربما كنت في الكثير من الأوقات محظوظة بالنجوم التي كانت هي من تسرقني قبل أن أخطط أن أوقع بها.. بل ربما لا أبالغ حينما أقول بأنني كثيرا ماكنت أصحو صباحا فأجد بعضا منها عالق بين أصابع يدي ولم أكن أعلم من أين جاءت؟ ومن الذي رمى بها لدي.. ورغم كل شيء.. فكثيرا ما أتوق إلى «عبير» التي أشعر بأنني أضعتها في أحد الطرقات.. أحتاج أن أراها حتى إن غضبت مني.. لا أعرف.. ربما غضبت – حقا – مني لأنني آذيتها كثيرا. فضيلة: أما أنا.. فأعرف «فضيلة» جيدا.. أولا: فضيلة الفاروق: كاتبة، سيدة قوية، والبعض يصفها بالفولاذية... وهي ترافقني حيثما أكون، هي الشق الأقوى في شخصيتي، وهي الشق الذي يجعلني أشعر بالفخر لأني اخترت الكتابة لتحقيق ذاتي وترك بصمة في هذه الحياة. ما الذي يغضبني منها؟ شجاعتها غير الطبيعية، تورطني في مشاكل أنا في غنى عنها أحيانا، خلقت لي أعداء كنت في غنًى عنهم، فتحت باب النار عليّ، فأنا إنسانة مسالمة، أحب السلام، وأكره الحروب، وأكثر شيء أمقته حمل السلاح، أحلم بحياة هادئة لكنها لا تكفُّ عن إقحامي في حروب لا تنتهي...أليس لدي الحق لأغضاب منها وأعيش معها في صراع مستمر؟ محمود: سأكون كذابا كبيرا لو قلت، أني أعرف. هذا الوغد مخاتل، يأتني من حيث لا أحتسب، وفي حالات لا يمكن تعدادها، قد أعثر عليه مختبئا في شوق انثى «مدقدقة» عركتها الحياة، وربما أتعثر به في زقاق ضيق، إلى جوار سوق عتيقة بإحدى مدن الحجاز التاريخية، أو أرتطم به في ظهيرة لاهبة، هابطا هائما من أحد جبال مكة، أحيانا التقيه متلصصا، متخفيا في «حومة مزمار»، يراقص أشواقه المتعبة، قد يعبر في فيلم، غير متقن الجودة، وقد التقيه بحبور في جملة لحنية من دانة مكية لمحمد علي سندي، متسكعا أحيانا، أصطاده في موال لطلال، أو شيلة لسيد البنجكا سعيد أبو خشية، أو مقعيا بوقار في تلاوة لعبد الصمد، التقيه اسبوعيا في خلوة أسيانة مع النبيل جدا محمد الفايدي. لكن يحزنني، أنني لم أعد التقيه كثيرا، وهو بتلك الروح التي كانها، وحينما أذهب لألتقيه، يطردني، دون أدنى اعتذار منه. ورغم كل هذا أظل غير مكترث بغياباته، لأني أدرك تماما، ماذا أعني له، وماذا يعني هو لي، بيننا سر، هو ما ينتظم ايقاع حياتينا، ياله من آفاق. ما يغضبني منه، أنه لا يهتم بي كثيرا. عبير: أظن بأن المرأة أجمل كائنات الأرض.. بها تفتح كل العوالم نحو الأساطير التي لا نحسن الدخول إليها إلا من خلال كتابها.. هي نصف الحب والنصف الآخر المتبقي هي حينما تبكي حبيبها.. وامرأة واحدة تكفي لتكون المرأة المستحيل في حياة الرجل. فضيلة: قلت المرأة: كتاب يستحق أن يقرأ، وقلت إنها نصف الحب الآخر، كما قلت المرأة المستحيلة؟ علينا أن لا نتفلسف كثيرا بشأن المرأة، فهي كما الرّجل تماما، جسد وروح، وهذان سرّان كبيران في الحياة، يستحيل أن يقرآ ككتاب، ربما مجازا نقول أنها كتاب يجب أن يقرأ، لكن في الحقيقة كلاهما أحجية من أحجيات الكون، بالنسبة لي، التعامل مع المرأة يجب أن يقوم على الإحترام أولا، والرجل أيضا، أما الباقي فلا يهم. هي نصف الحب الآخر، نعم أوافق، لكنّها أيضا منبع الحب فلا يجب طمره، وهي لمسة الجمال الكونية، فلا يجب تلوينها بلون أسود، هي الرفيق الوحيد للرجل في مسيرة حياته، وأسمحيلي أن أهمس للرجل: أي كائن على الأرض يهين أنثاه غير الرجل؟ فهل تقبل على نفسك ذلك. من أي هي المرأة المستحيلة؟ إن كنت تقصدين امرأة مختلفة عن كل نساء العالم فهي العذراء مريم عليها السلام سيدة العالمين. بشهادة القرآن الكريم. غير ذلك يبدو لي السؤال تعجيزي ومستحيل. محمود: عام 1998 رحلت «حواء أم صدقة» -أمي رحمها الله-، من لحظتها، تغيرت كليا، زهدت في كل شيء تقريبا، انطفأت داخلي كل المصابيح التي أوقدتها يوما ما، أحلام قديمة. كان وقع فقدها عليّ أليما جدا، بمثابة صدمة ربما لم أفق منها للآن، ذلك أنها كانت الفقد أول في حياتي، عرفت ما هو الموت، وماذا يعني، ماذا يعني أن تطفئ حواء ام صدقة كل اشتعالات الفرح بين جنبيها وتمضي في غياب للأبد! بشكل ما تكاد تكون المرأة عندي هي الغياب، حضور غير مكتمل، بما يجعلني أستعيد «أدسو» في رواية «اسم الوردة» وهو يؤكد «أن المرء هو نصف مخلوق، لا يكتمل إنسانا، إلا إثر عثوره على نصفه الآخر». أحيانا وفي بعض الأماكن قد يبدو صعبا حد الاستحالة الحصول على النصف الذي تكتمل به انسانا جميلا وبشرا سويا. ماذا هل يمكنني القول يا عبير، أن المرأة المستحيلة هي نصفك الذي تكتمل به!؟ * عند ذلك السؤال المهم.. نعلق قلوبنا في ليل البندقية الحالم.. أتناول أوراقي ثم أمضي خلف ضباب ذلك الليل الذي جاء وحيدا وغادر وحيدا هناك في أقصى زاوية من شمال القلب. محمود مع إبراهيم خفاجي فضيلة مع أحلام مستغانمي فضيلة مع الكاتبة التركية إليف شافاق خلال توقيع كتابها الأخير بلندن فضيلة مع الكاتبة إيميلي نصر الله محمود مع الشاعر عيد الخميسي محمود مع الدكتور أيمن بكر محمود مع عبدة خال والفايدي في جدة محمود مع طلال المداح فضيلة على ضفاف التايمز