يمثل عبدالعزيز مشري (1374-1421) السروي الذي عاش يقتات على حكايات جداته وهن يزرعن القمح والحنطة على قمم جبال السراة الحجازية، فكانت نقطة انطلاقه التي عاش مخلصاً لها حتى وهو ينزف حبراً على ضفاف الخليج العربي هناك في الدمام؛ حيث أمضى بقية حياته! يقول مشري «كنت شديد الاهتمام بالقارئ الذي وجدته في غربة عن نصوصي لغة ومضموناً فساءني ذلك، خلق في داخلي قلقاً على هيئة سؤال كبير، لماذا تكتب ولمن؟». تنطلق لحظة الكتابة عند القاص عبدالعزيز مشري من لحظات حزن وفقد وحنين، لحظات مليئة بالعشق للخطوة الأولى، للنغم الأول، فعناوين مجموعات المشري القصصية مثلاً إلى جانب لغة تبكي حروفها، تقدم لنا قرابين عشق حتى لا ننسى لذة القراءة واللقاء، إنها تنصب لنا فخاخاً للعشق الأول الذي لم يتعده مشري أو يتجاوزه يحشد الأفكار ويشدنا إليها من خلال عناوين ولغة شفاهية حاملة لامتياز الشعرية، منها (موت على الماء، أسفار السروي، بوح السنابل، والزهور تبحث عن آنية) وفي مجموعته الأخيرة «جاردينيا تتثاءب في النافذة» يتقاطع كثيراً مع السيرة الذاتية في توثيق لمرحلة المرض واستدعاء لمراحل من حياته، وكأنه يدخل مع الوقت في سباق أيهما يستطيع الفوز به. وفي كل ذلك يذكرنا أنه أهدى لنا مفتاحاً للدخول، تلك اللغة القصصية ترسب وتبني وتبقي على تلك الأحاسيس بوقع الأشياء الجميلة في ذلك الزمن الذي لم يغادره منذ أن غادر قريته، فقد كان لديه ولع شديد وعجيب بصياغة القصة بأسلوب الحكي الشفاهي القديم، فمنذ الوهلة الأولى ظل يبحث عن مناخات للبوح والحكي والانطلاق في فضاءات غير مطروقة من قبل، وكأني به قد نصب نفسه حامياً لما اندثر من ذلك الجمال في تلك القرى الهادئة الوادعة. وسأتوقف عند «أسفار السروي» مجموعته القصصية الثانية التي ارتكزت على المكان الشامخ فهو يحدد هوية وانتماء وبعداً جغرافياً يعيشه النص ظهر في تلك اللغة من خلال أسماء لشخصيات وتعريف بأماكن عاشت ومازالت تعيش في ثنايا النص، تلك الأسفار التي تناصت مع التراث أفقياً بمعنى امتداد داخل تراثنا العربي قديماً، وتواصل أيضاً مع تراث شعبي اعتمد على المشافهة، ولذلك اختار عناوينه مزيجاً وخليطاً مسافراً بين هذين الامتدادين مثلاً: عنوان لقصة «عنترة بن رداد» «ابن السروي» «من السروي إلى شوق» «حمدان يسأل» «خطط ابن عود» الاتكاء على هذه اللغة التراثية في هذه اللحظات الموجعة بالفقد المتأزمة بالحنين، هو تجديد الانتماء إلى الذات الغائر وجعاً وفقداً للمكان الأثير إنه يعشق التراث وهو يتعاطاه، يساجله، النص يفضي إلى تعدد القراءات، إنه النص المفتوح، فهو يعيش حالة شوق مستمر منذ انتقاله إلى المدينة التي لم يرها يوماً على حقيقتها رآها بعينين لم تفارقا قريته السروية يقول في السطور الأولى من قصة «من: السروي.. إلى: شوق» «عندما بلغ التعب من (السروي) مبلغ الألم.. تطلع إلى جهة الشارع المزخرف بالسيارات الفارهة، وحملق بعناية في أشجار مكتظة بالخضرة لا تفيد إلا في المنظر، ورآها كورق الطلح، ورآها كورق السدر.. ورآها كحقل ذرة، ورآها ودياناً من حبق ولوز، تدخل الذاكرة فتصفع بالحنين.. وتفيض برغبة تجمح في العودة إلى الديرة. شتم بكلام مر حياة المدينة» هكذا كانت العلاقة مع المدينة، تلك العلاقة الرافضة الموحشة والتي صبغت النصوص بصبغتها المتأزمة بدءاً من العناوين انتهاء بآخر سطر من قصص الفقد والحنين، وهذه حالة تقاطع معها معظم المبدعين العرب الذين لم يتصالحوا مع المدينة ولم يروا في المدينة إلا (غابة من الأسمنت)، كما عنون بذلك الشاعر المصري عبدالمعطي حجازي لديوانه الشعري. كاتبة سعودية monaalmaliki@