استيقظت القرية على عصف الرياح وكأنها تحمل نذارات شؤم. يوم ربوع في عِز الخريف، احتدت فيه شرقية الوسم بنفجها ونشوفتها وصلافتها كأنها خصم مستفز. زعزعت ألواح الأبواب ودرف الشبابيك وأسقف الصنادق، وصفّرت بأوراق أشجار المشمش والخوخ والرمان، فتساقطت، وتعرّت الأغصان من نضارتها، وشققت وبجست جلود الأوادم. مدرسة القرية، كالعادة في آخر الأسبوع، تعيش بهجة يوم مفتوح. المدرسون مرتبون رحلة ليومي الخميس والجمعة لوادي خاط في تهامة، والفرّاشون لاهون بتحميل القدور والزل والمتاكي، ولوازم الطبخ في سيارة النقل، وأبو يعن الله عاد من السوق بذبيحتين ابد لها وخيّل. لم يكن (فراص القاسي) راضياً عن دراسة أبناء قريته في القرية المجاورة، وطالما تحين السوانح ليفسد الود ويشق الصف، وكثيراً ما عاتب عريفتهم: لو أنك من أهل الناموس وصلابة الروس ما خليت المدرسة تفلح عندهم وأنت تتلمح وحاط برطم على برطم كأنك أطرم، فيرد عليه بهدوء: شُركانا في البيت والوادي والمدرسة شار العين، وأنت ضروبة شيطان، تتنخش الشر من قعور العرعر وتنعثل الروايا، الله يعطينا خيرك. بدأ (فراص) يحشي صدور الدارسين ويحرشهم على شباب قرية المدرسة، ويعيد لهم بعض قصص الماضي الجاهلي، فنقل طلابهم وتناقلوا كلاماً ما يجمّل قائله ولا ناقله، وزي ما قال المثل، كل زبيبة في أسفلها عنقود، وما من شجرة إلا وهزّها الهواء، وكان عريف الفصل المهذّب يردد على مسامع المتحمسين (عيب) ويهدي ردود الفعل. درج مؤججو الفتنة على الفصول لتأزيم الموقف ونفخ نار الوقعة، خصوصاً ابن فراص (شبّاب) الذي تبنّى التحريش أولاً بين ابن عمه (سليم) وزميلهم من قرية جيرانهم ابن العريفة (مسالم) وحشد كل فريق مجموعته بالطلاب مفتولي العضلات ومتحجري الأدمغة، وتواعدوا على الصرفة. انطلق المدير والمدرسون والموظفون إلى رحلتهم، في خمسة جموس وهايلكس، وانحاز طلاب القرية السفلى في أسفل الوادي وبأيديهم عصي وحجارة، يرددون: انزلوا لنا إن كان فيكم خير، وطلاب القرية العليا من علو الوادي يرددون: اللي ولد أبوه يطلع لنا. بدأ شبّاب أول حذفة، فتوالى الحذف بالحجارة من أسفل ومن فوق، ولم يستطع سليم ورفقاه مع كثرة حذفهم وصريف حجارتهم كسب المعركة. كون حذفهم ما يصل خصومهم، فعادوا لقريتهم بستة طلاب دماؤهم تعطي من رؤوسهم، وبلغت الحادثة كبير قريتهم فأوصى الأمهات بسد فقوع روس ورعانهن بالشاي المطحون والبُن. بانتهاء صلاة العصر في المسيد، لبس كبيرهم مشلحه وتناول بندقيته من معلاقها، وطلب من الفقيه والمؤذن يمشون وراه إلى قرية الجيران. نصى بيت العريفة ونادى بأعلى صوت: شيخنا، فجاء الرد: اقلط. كانت الدلة راشقة والعريفة متمدد مدهّن قدميه وكفيه (بالوزنين) لتليين فقوع النجدية، طلب من الفقيه يقهوي رفاقته. رشف الضيوف قهوتهم. وقال كبيرهم: أعلامنا خير والصلاة على النبي: في وادينا والله هادينا. ودولتنا أعزها الله آخت بيننا، وقطعت أسباب الفتن والإحن، ولكن سفاننا عادوا من المدرسة دميانهم تشخب، واليوم ما بنطاوع البزور وعديم الشور. صحيح المدرسة في قريتكم لكن أكثر طلابها من قريتنا ولو ما بصمنا معكم على فتحها ما انفتحت، واللي هبى لكم مدرسة يقدر ياهب لنا كماها وننفك من النشايب والطلايب. وهذي بندقتي معدال، إن كان الخطأ من أولاد جماعتنا فابشروا بالحق وما يلحق، وإن كان أولادكم فلحية يجزّها الحق وافية. ردّ عليه: حياكم الله وعلمكم. وأول بادي: عشاكم مرفوع. فأقسموا جميعاً ما يسن لهم غير القهوة التي شربوها، وأضاف: معدالكم وصل، وجنبيتي معدال عن جماعتي. وامهلوني ثلاثة أيام، ويوم السبت أولادكم لا يطلعون المدرسة، ويجيكم العلم في مكانكم. كلف العريفة من يتقصى له التفاصيل، وبعث مندوب إلى (فراص) يستدعيه، جاء يتنافض. ويردد: عسى ما خلاف يا شريكي، قال: ما عاد أكبر من خلاف نمائمك اللي فقعت الروس، وهذي المرة جاءت عوافي. (ثورك يا فراص يموت) وتعشينا وتعشي جماعتك يوم السبت ولا معونة. نظر إليه وقرأ تعابير الوجه فعرف أنه انكشف. ردّ: تقول وتطول يا شيخنا. خرج من عنده يسير ويتلفت وراه، ويردد: ذا ما تجي له عند بيته غدا لها، وصبح السبت وثور فراص معلّق في الجرين، وعريفتهم يحث الرجال على إعداد العشاء، فيما جمع الكبير المدير والمدرسين، ومع المغرب اجتمع الضارب والمضروب في مجلس عامر بالدِلال ووجيه الرجال، وتسالموا وتسامحوا. تعشوا وكثروا بالخير، وانتشى الليل واشتد لعبه (يا راعي البندق المصيون كب المعاريض، ألبشت حالك مع العربان والبشت حالي)، سرى الربع في شروح وفروح وقصايد ترد الروح، وحضر اللعب الشاعر المذرّع، فبدأ يمرر إسقاطاته على أبو فراص (يقول أبو عساف ودي بالخواتم، والخواتم في لغب ثار، دم رأس وإلا مدها وإلا عزيري) والنقع حامي وأبو فراص يسيّر بين الصفوف بالدف ويغمّز للشاعر. كاتب سعودي Al_ARobai@