لكل عصر شعراؤه الذين يعبرون عنه ولكل شاعر منهجه وطريقته في الأداء و الأدوات التي من خلالها يستطيع إيصال أفكاره التي تعتمد على رؤيا تعيد إلى الواقع أشياء جديدة تتجاوز اللحظة الآنية امتداداً نحو أفق مستقبلي. واقتناص الفكرة الجديدة والمعاني المتألقة التي تحتضن التجديد التعبيري والفني هي غاية الشعر من أجل إنسان عصره، وهذا لا يعني قطع الصلة بالتراث الشعري الذي قيل وانتهى وعالج رؤاه الخاصة به في ظل متغيراته و تحولاته التي عاشها إنسان ذلك الوقت فقدم كل ما يستطيع! فالصلة بين التراث والحاضر صلة حتمية لا انفكاك منها ولكن استلاب الماضي للحاضر والمقايضة بما نملك كي نستحوذ على ما مضى تولى وفات! هنا يبدأ السؤال القلق لماذا؟! المقايضة التي عرضها الشاعر المبدع جاسم الصحيح مع شاعرنا العربي الكبير «المتنبي» في برنامج «الليوان» تطرح مشكلة كانت السبب الرئيس في بقاء الفكر العربي إلى الآن مرهوناً للحظة تاريخية مضت وانتهت لكن وهجها -للأسف- ما زال يعمي أبصارنا فبقينا هناك مع المتنبي نسترجع قوله: كَفى بِكَ داءً أَن تَرى المَوتَ شافِيا وَحَسبُ المَنايا أَن يَكُنَّ أَمانِيا ثم كانت الطامة الكبرى عندما قال جاسم الصحيح «لو قبل «المتنبي» مقايضتي، لأعطيته دواويني الاثني عشر بهذا البيت فقط من شعره..!» هذه المقايضة التي عرضها الصحيح تلخص وتعبر بصدق عن تلك اللحظة المأزومة التي لم نستطع تجاوزها حتى الآن لحظة التسليم الكامل للتراث وعدم تجاوزه! ورغم عمق ثقافة الشاعر الصحيح المنفتحة على التيارات الشعرية الحداثية تنظيراً، فقد ذهب بنا بعيداً في لقائه مع التجارب الشعرية الغربية التي تأثر بها شعراء العصر الحديث ولكنه توقف في لحظة وسلم تجربته الشعرية كاملة في لحظة حنين طاغية إلى ماضٍ تولى! إن النص التأسيسي الأول للمتنبي طغى على تجربة شاعرنا الجميل فذهب معه إلى لحظته التي وقف المتنبي بها يؤسس لفلسفة الموت، وأبدع المتنبي شاعر ذلك العصر بأدواته التعبيرية في خلق لحظته الخاصة به وكتب تاريخه الشعري بما يملك من أدوات تعبيرية خلاقة ولكن أبى الصحيح إلا أن يقايض المتنبي وينسف لحظتنا التاريخية لنبقى أسرى المتنبي دائماً. لماذا استطاعت لحظة المتنبي التاريخية أن تتحول إلى «مقدس» نقايض من أجلها تجربة شعرية كاملة؟! هل هذه معضلة الإنسان العربي الذي لم يستطع إلى الآن الخروج من براثن لحظة الكتابة الشعرية الأولى؟! إن تفكيكاً حقيقياً لمراحل انتظام هذا التراث الشعري، والتراكم الذي أدى به إلى أن يتحول إلى «مقدس» هو الفعل المعرفي الحقيقي الذي بدأ ولم يزل إلى الآن يتعرض لهزات مقايضة عنيفة. * كاتبة سعودية monaalmaliki@