المتنبي معاصرنا نادراً ما يمرّ عام لا يصدر فيه عن المتنبي كتاب او لا يعاد طبع ديوانه او مختارات له. فهذا الشاعر الذي قيل عنه في عصره "مالئ الدنيا وشاغل الناس" ما برح يملأ عصرنا ويشغل القراء والشعراء والنقاد على السواء. والخصومة التي نشأت قديماً حول شعره ما زالت قائمة الآن شاملة كما في السابق، شخصه وهويته، ومضفية مزيداً من الالتباس على أسراره الكثيرة. لم يتأتَّ لشاعر ان يحمل السيف والقلم معاً مثلما فعل المتنبي، أي ان يكون في آن شاعراً من خيرة الشعراء وفارساً من خيرة الفرسان. ولعلّ فرادة مشروعه الشعري تكمن في كونه مشروعاً شاملاً، سياسياً ووجودياً. ولم يكن سعيه المستميت الى السلطة الا من قبيل انجاز هذا المشروع شبه المستحيل وشبه المتوهم او الطوباوي. والقصائد المدحية التي قالها في بعض السلاطين لم تكن الا مدائح شخصية لصورة السلطان كما يتخيّله هو وكما ينبغي له ان يكون. فشاعر في حجم المتنبي بل شاعر في التباس انتمائه يستحيل عليه ان يُنعم في مدح مَن لا يستحقون المدح، ولو اعتلوا العروش. هذا الشاعر الذي كان خير مَن امتدح نفسه في الآخرين كان يرى في نفسه الصورة المثلى للكائن الذي يلتقي فيه الشاعر والفارس، الحكيم والسلطان، البطل والداعية. وليست نرجسية المتنبي الواضحة مجرّد نزعة "أنوية" متضخّمة بل هي نرجسية الشاعر المنبوذ الذي لم يفهمه قومه ولم يدركوا أبعاد مهمته. انها نرجسية الغريب الذي نفاه أهله والذي يعاني ويكابد ويتألم ويشكو. صدمة المتنبي الأولى حصلت في مقتبل حياته، عندما لم تستطع الا قلّة من بني قومه الأخذ بما قال به هذا الداعية ذو الجذور الباطنية. على انه سرعان ما تخلّى عن دعوته ليصبح شاعراً فقط وليثبت ان الشعر قادر على اجتراح الجمال والحكمة والبلاغة. وعلى مثال الشاعر الأبيّ والنرجسي والحكيم استيقظ فيه الفارس الذي يهوى خوض المعارك والحروب. وفي غمرة الوغى كان المتنبي يواجه الموت دونما خشية أو حذر ليجعل منه فيما بعد جذوة الشعر والتأمل. سيظل المتنبي مثار خلاف دائم مثلما كان طوال الحقب التي عبرت. ومثلما حيّر ابن جنيّ أول شارحيه وأبا العلاء المعرّي وسواهما من القدماء حيّر أيضاً ناصيف وابراهيم اليازجي وطه حسين من المعاصرين وأدونيس وسواه من المحدثين. وليست مصادفة ان يجعل أدونيس انجازه الشعري الضخم "الكتاب، أمس، المكان، الآن" أشبه ب"مخطوطة تنسب الى المتنبي" وكأنه عمد الى تلبّس شخص المتنبي وليس قناعه ليكتب باسمه ملحمة التاريخ العربي الحافل بالمآسي. كان المتنبي شخصية تراجيدية بامتياز، شخصية مضطربة تتنازعها أهواء عدّة: الشعر والسلطة والرؤيا والحكمة والبطولة... لكنها كلّها ستؤول الى خيبة وجودية مريرة لا يجسّدها سوى الشعر بعدما أصبح مرآة الكائن والوجود. وسيكون الشعر حافلاً بالأسرار والألغاز والمعاني التي يختلف تأويلها من شارح الى آخر، أي من قارئ الى آخر. فالشاعر الذي جمع بين الفلسفة الباطنية التي نشأ عليها والفلسفة الاغريقية التي تلقّنها وسائر المدارس التي صخب بها عصره، صهر تأملاته وأفكاره وحكمه في ديباجة ساحرة ولغة قادرة على مواجهة الزمن نظراً الى نضارتها الدائمة وكيميائها الغريبة. هذا الشاعر المفتون بنفسه ومثاله كان مفتتناً بأسرار اللغة العربية واعجازها مثل افتتانه أيضاً بالعقل والقلب والخيال... أما تناقضات المتنبي التي جعلت القدماء والمحدثين يختلفون عليه ويتطرّفون في اختلافهم فهي من الخصال التي تفرّد بها ودفعته الى ان يكون ما هو عليه، شاعر القوة والعبقرية، شاعر البطولة والخيبة، شاعر العظمة والحكمة. ومثلما كان مدّاحاً وهجّاء ورثّاء كان شاعر التجربة الداخلية، شاعر الصراع الداخلي بين الوجود والعدم، شاعراً تراجيدياً ووجودياً وعدمياً. أين يكمن سرّ المتنبي؟ هل تحمل الكنية قبساً من هذا السر؟ هل يتمثل سرّه في مشروعه الشامل الذي لا تنفصل فيه شهوة السلطة عن هوى الابداع؟ أم في خيبته الوجودية المريرة التي خالجته منذ ريعان العمر؟ هذه الأسئلة التي حيّرت شارحيه ونقاده المتخاصمين حوله ستظلّ مطروحة، وسيظل المتنبي ظاهرة نادرة في التاريخ العربي وليس شاعر الشعراء فحسب او شاعر "الطبقات" كلّها كما يعبّر القدماء. ولعلّ سرّ المتنبي أنه قادر ان يكون معاصرنا مثلما عاصر الأجيال السابقة ومثلما سيعاصر الأجيال اللاحقة! عبده وازن أدونيس: النص الكبير والعقل الصغير "المتنبي معاصرنا"؟ نعم. الى درجة تتيح لنا ان نرى في شعره مسرحاً متواصلاً لماضٍ كأنه هو نفسه الحاضر. ولعلّ الوجه الأبرز لهذا الماضي "العصري" في شعر المتنبي يتمثل في أنّ هذا الشعر يصدر عن رؤية تتمحور حول همّ أساسي هو زلزلة العالم الفكري - الأخلاقي الذي ينتجه التمفصل المعقّد بين الديني والسياسي في الحياة العربية، لا على مستوى النظام وحده، وإنما كذلك على مستوى الحياة الاجتماعية الثقافية الاقتصادية، في مختلف بناها ومؤسساتها. وهو عالم يراد له ان يظل دفيناً، مخبوءاً، مكبوتاً، محرّماً. ذلك انه عالم "الجرائم الدنيا"، بوصفه عالم "الشهوات الدنيا"، ويتعارض كلياً مع المعلن، المعمّم، المزيّن: التسامح، والعدالة والانفتاح، وبقية الواجهات اللفظية التي تغطّي ولا تزال الطغيان والظلم والنفاق والفساد في حياتنا العربية. شعر المتنبي من هذه الناحية، سياسي الحضور، بوصفه حاضراً أبداً في الهاجس السياسي العربي. ولا أعني بالسياسة هنا تلك التي تنحصر في الحكم وشؤونه، وإنما أعني تلك التي تنهض على فن خلاّق في بناء الدولة، وبناء الانسان، والقيم الانسانية. لا سياسة الادارة والتنظيم، الخاصة بحياة البشر اليومية، بل سياسة الانسان بوصفه كوناً مصغّراً. وهذا مما لم يلحظه معظم دارسي المتنبي. فقد وقفوا عند الدلالة المباشرة لشعره - الدلالة الحدثية في ذاتها، وفي حدودها العملية. وهو نفسه ما "يحجبه"، ويجعله مجرّد ماضٍ - خلافاً لما يقوله شعره، وخلافاً لجوهر الشعر. وكما ان مستوى القارئ يتحدد بمستوى قراءته، فإن النص الشعري مهما كان عظيماً يصغر حين يقرؤه عقل صغير. وهذا ما حدث للمتنبي، في قراءة بعض من نقاده، وهو ما يحدث للشعراء الكبار، لا في التاريخ العربي وحده، وإنما في تاريخ الشعوب كلها. ولئن كان الشعر الخلاّق يستلزم قراءة خلاّقة، فإن قراءة شعر المتنبي، اليوم، يجب ان تتم على مستويين: مستوى التجربة اليومية الفردية والخاصة، ومستوى التاريخ، والكينونة، والمصير. وهي قراءة تكشف، بالنسبة إليّ، عن حضور مزدوج للطاقة العربية في شعر المتنبي: خلاّقة، من جهة، اذا نُظِر اليها بوصفها تتجسد في أفراد، وكارثية، من جهة ثانية، اذا نُظِر اليها بوصفها تتجسد في مؤسسات. ويكاد شعره ان يكون سمفونية في فنّ الكشف عن هذا التجاور بين الابداع، رؤية واستشرافاً، والكارثة فساداً وجموداً، في الحياة العربية، مما نعرفه ونعيشه حتى اليوم: الفرد خلاّق وسبّاق، والمؤسسة بؤرة للفساد والجمود. إن شعره هو، في هذا الاطار، مستودع فريد لمادة الحياة العربية و"خاماتها": شاهد لها، وشاهد عليها في آن. في هذه الشهادة تبدو الحياة في شعر المتنبي صراعاً دائماً، لا حتمية، بل حركية مستمرة. ويبدو شعره مكاناً يتجاور فيه، في اللحظة نفسها، كما هو الشأن في كل شعر عظيم، الظلام والضوء، الهدم والبناء، قوة الموت وقوة الحياة، الماضي والحاضر والمستقبل. السؤال، الآن، هو: ماذا يعلّمنا شعر المتنبي، وكيف نتعلّم؟ الجواب، بالنسبة إليّ، هو في "الكتاب". فهذا العمل بأجزائه الثلاثة الثالث الأخير، يصدر قريباً جداً نوع من الهبوط في الجحيم الذي يدلّ عليه شعر المتنبي في الحياة العربية. جحيم التآكل والتفتت. الجحيم الذي يجهر ان الحرب الجماعية العربية - العربية، حرب النظر والعمل، وأن امتهان الانسان، وازدراء حقوقه، وقتله - نظرياً وعملياً، جزء عضوي من "النظام" العربي، ماضياً وحاضراً. وهذا مما يجب على كل خلاّق عربي ان ينطلق منه، لكي يتفهمه، ويعرف أصوله، ولكي يحسن الرؤية، ولكي يحسن الكتابة، ولكي يعرف كيف يؤسس لبناء النعيم - نعيم المستقبل. هكذا، وبهذا الهاجس المستقبلي، لم أتبع في "الكتاب" خيط "التقدم" في الحياة العربية، كما فعل على سبيل المثال، فيكتور هوغو في ملحمته "أسطورة العصور" بالنسبة الى أوروبا. وإنما أردت ان أهبط في الجحيم، لأرى، ولأجعل قرائي يرون ما هو أخطر وأكثر أهمية لبناء العالم والمستقبل: الخيانة التي ارتكبناها في تاريخنا ولا يزال بعضنا يمارسها، خيانة الانسان في وجوده وحريته، في حياته ومصيره. هذا الهاجس المستقبلي هو نفسه مما يجعل المتنبي معاصراً لنا، ومما يجعل شعره ساطع الحضور، أبداً. نقولا زيادة: اشكالية السيرة ولد أبو الطيب المتنبي في الكوفة سنة 303 ه 915 م وفيها تثقف. كانت الكوفة في القرن الرابع ه العاشر م، كما كانت البصرة وأماكن أخرى سواهما، قد بلغت الحضارة العربية الاسلامية فيها المدى الأعلى. فظهرت في هذه المراكز، الى جانب الآراء التقليدية، آراء متنوعة ومتضاربة هي التي ثقفها المتنبي. فكان في نفسه وعقله حيرة تبدو واضحة في شعره عندما يقرأ بتمعن وعناية. الى هذه الحيرة الفكرية كانت تعمر نفس المتنبي نواح أخرى: الكبرياء والشجاعة، وفوق ذلك الطموح. وهذا الأخير هو الذي أدّى الى تنقله من بلاط الى آخر من البلاطات الكثيرة التي عرفها هذا العالم العربي الإسلامي الواسع. يبدو انه كان عند المتنبي شيء من التشيع، لم يتفق الباحثون على درجته، عمقاً أو سطحية. فمثل هذه الأمور يصعب، في الغالب من الأحوال، سبر غورها وادراكها من الشعر، خصوصاً ان التشيع يومذاك كان يعتبر خروجاً على الدولة العباسية رسمياً. هذا فيما نرى السبب في ان المتنبي يمم وجهه شطر البلاط الحمداني في حلب. فهذه الأسرة الشيعية كان بطلها في تلك الأيام سيف الدولة 945 - 967، وكان في هذا البلاط عدد من أهل الفكر والطب والأدب والشعر، منهم على سبيل التمثيل الفارابي، فانضم المتنبي الى هذه الكوكبة. لكن الآخرين اكتفوا بما نالوه من كرم ورعاية. أما المتنبي فكان يطمح الى امارة - الى الحكم - الى القوة والى السلطان. نظم الشعر الجيد في سيف الدولة وقتاله وانتصاراته. لكن سيف الدولة لم يلب طلب المجد الذي كان المتنبي يطمح فيه. هل كان اهمالاً؟ هل كان جهلاً؟ لا يمكن الجزم. خرج المتنبي من حلب يحمل أملاً كان يرجو ان يتحقق في مصر. هناك كان عبد يتولى السلطة أولاً مشرفاً على الشؤون نيابة عن اونوجور بن محمد بن طفج مؤسس الدولة الأخشيدية في مصر. هذه النيابة امتدت من سنة 946 حتى 961، ثم وصاية على عليّ من 961 - 966، ثم حاكماً وارثاً للأسرة الأخشيدية 966 - 966. وبقطع النظر عن النيابة أو الوصاية، كان هذا العبد النوبي هو المستبد بالأمر. ذهب المتنبي الى مصر ولم تكن القاهرة بنيت بعد، بل كانت العاصمة الاسلامية تنتقل من الفسطاط الى القطائع الى العسكر وكلها متجاورة، وأنا لأنني أحب المتنبي أرى انه أخطأ، مبدئياً لأنه، وهو صاحب النخوة العربية أن يلجأ الى كافور ليحقق طموحه. يبدو ان كافور كان يخشى الاغتيال والمؤامرة، فلعله ظن بالمتنبي سوءاً، ويبدو انه "وضعه تحت المراقبة" كما نقول اليوم. على كل خاب أمل المتنبي فترك مصر وهجا كافور خصوصا في بيته المشهور: "لا تشترِ العبد إلا والعصا معه / ان العبيد لانجاس مناكيد"، ويمم شطر بلاط عضد الدولة البويهي الذي كان سيد المنطقة من خارج بغداد. كان البويهيون شيعة، ولعل المتنبي حسب ان تشيعه قد يشفع له، ولكنه خاب ظنه وتحطمت آماله للمرة الثالثة. وخرج لا يلوي على شيء، ولا أدري، ولست أدري اذا كان غيري يدري الا في عالم التنبؤ عن متنبئ أين كان متجهاً. لكن لصوصاً أو غير لصوص عاديين، فلعلهم كانوا قتلة سياسيين قتلوه في الطريق. كان ذلك سنة 354 ه 965 م. كان المتنبي بالنسبة الى سيف الدولة مؤسسة اعلامية تنطق شعراً. ولست أشك ان شعر هذا الرجل أضاف الى شهرة سيف الدولة وخلده. ولأن الشاعر لم يهجُ الأمير فيما بعد فقد صدّق القوم ما قاله في سيف الدولة. إذا أخذت ديوان المتنبي سواء في شرح العكبري أو الشيخ ناصيف اليازجي ستعجب بشعره كثيراً إلا اذا افقدتك حمى الشعر الحديث الذوق كله. لكن انا تعلمت في صغري 14 سنة قصيدة لطيفة له لا أزال أذكرها. وليُسمح لي بأن انقلها للقراء: "أقمت بأرض مصر فلا ورائي / تخب بي الركاب ولا أمامي / وملّني الفراش وكان جنبي / يملّ لقاءَه في كل عامِ / يقول لي الطبيب أكلت شيئاً / وداؤك في شرابك والطعام / وما في طبه اني جواد / أضرَّ بجسمه طول المقام / فأُمسك لا يطال له/ فيرعى / ولا هو في العليق ولا اللجامِ". ومرضه، الذي كان الملاريا في ما أعتقد، لأنني لقيت منها الأمرين في شبابي، يصفه بهذه الأبيات: "وزائرتي كأن بها حياءً / فليس تزور الا في الظلام / بذلت لها المطارفَ والحشايا / فعافتها وباتت في عظامي / يضيق الجلدُ عن نفسي وعنها / فتوسعه بأنواع السقام / كأنّ الصبحَ يطردُها فتجري / مدامعها بأربعة سجام عبدالله محمد الغذامي: ذاتٌ فحولية ونسقية طاغية لكل أمة أوهامها وخرافاتها، ومن الطبيعي ان يكون لنا نحن أوهام وخرافات. ولكن المتنبي ليس وهماً ولا خرافة، مشكلة المتنبي انه حقيقة، وحقيقة خطرة جداً لأنه حقيقة نسقية، وهو يجمع الحقائق كلها، الحقيقة الجمالية، والحقيقة الفحولية، والحقيقة الكلامية، حتى ليبدو وكأنه مثال كلي كامل، وهو مثال ولا شك، ولكنه ليس مثالاً على الجميل والجمالي، فحسب، بل هو، ايضاً، مثال على النسقي والمضمر الثقافي. ما الخلاصة التي نخرج منها بعد استهلاكنا المتنبي، بعد الجمال والكمال والنشوة البلاغية العميقة...؟ لن ينكر أحد ان المتنبي يحمل ذاتاً فحولية طاغية، وهي ذات مركزية وذات ناسخة للآخر ورافضة له ومتعالية على كل ما عداها بل تحتقر الآخر، وترى ان الكون كله ملك مسخر لها. وترى ان الكذب فن وجمال، وأن المال والجاه يؤخذان بالقوة البلاغية والمجازية، وأن المجد شخصي وذاتي وان الاستنفاع والشحاذة وسيلة وحيلة بلاغية مبررة بل جمالية، وترى مع هذا كله، ان ثنائية المديح والهجاء هي الاداة المنهجية للكسب. هذه خلاصة لما في خطاب المتنبي، وليس في ذلك من بأس لو كان خاصاً بأبي الطيب، غير ان هذا قانوني ثقافي، كان من قبله، ثم تجسد فيه. وهو قانون ظل ينغرس فينا، حتى صرنا نراه في سائر أعمالنا، وصرنا به وفيه كائنات مجازية، لأننا ظللنا نستهلك الطبخة المجازية المتشعرنة والفحولية، عبر البليغ والشعري، الى ان صار ذلك نموذجاً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، وصار نسقاً ليس مهيمناً فحسب، ولكنه مقبول ومحبوب ومتغلغل في ذواتنا الثقافية، الذات المجازية التي تقول ما لا تفعل، والتي تبالغ، والتي تنظر الى العالم نظرة شعرية، مثلما هي متشعرنة ومجازية. لو كان الأمر في شعر جميل نتذوقه ونطرب له، ثم نفرغ منه الى ما هو عملي وانساني، لكان الأمر عادياً. وهذا ما يبرر الشعر في كل مكان في العالم، ولكن، اذا ما كان النموذج الفحولي الشعري هو نفسه النموذج الاجتماعي والسياسي، وصار الطاغية السياسي صورة نموذجية للفحل الشعري، فهذا معناه اننا نملك شعراً فحولياً له رموزه وله آباؤه. وهذا الشعر يمثل "علامة" ثقافية بصفته "حامل نسق"، وبصفته المطبخ الذي تصنع فيه الطبخة النسقية / الفحولية، ثم تنتقل هذه الى "المائدة الاجتماعية". والمتنبي أكبر مسوق لهذه الطبخة، وهو أفصح المعلنين عنها، ولذا فهو مثال نموذجي للاحتذاء النفسي الخفي عبر استهلاكنا غير الواعي وغير الناقد لهذا النسق. وهذا ما يجعلنا نسقيين متشعرنين، في موقفنا من أنفسنا وفي رؤيتنا للعالم، وفي موقع قيم العمل عندنا، التي هي قيم مجازية وذواتنا ما زالت مركزية تمركزاً مجازياً، وناسخة للآخر، الآخر الداخلي، بالدرجة المباشرة، وهذه هي الذات الشعرية، التي تتحكم في النسق الثقافي. سيظل المتنبي شاعراً كبيراً وعملاقاً، ولكنه عملاق نسقي ونموذج لكل ما هو خطير في تكوين الذات الفحولية. ويكفي تعاليه على خطاب الحب، لأن المحب يتفانى في الآخر، وهو يريد ان يتناهى العالم اليه. وتكفي تلك الذات المتعالية والشحاذة والمبالغة والمجازية، وهي كلها سمات تراها في الشخصيات الاجتماعية والقيادية، وستظل كذلك ما دامت مصادر الذوق الجمالي النموذجي تغرس مثل هذه السمات، التي سميتها وأسميها ب"الشعرنة". عبدالعزيز المقالح: الشاعر الذي يستعيدنا كان أبو الطيب صدى عميقاً لعصره ولا يزال شعره معاصراً شديد المعاصرة لعصرنا لأسباب عدة منها ان ظروف النصف الأول من القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي لم تختلف عربياً عما كانت عليه يومئذ ان لم تكن زادت سوءاً. كافور لا يزال هو كافور، والثغور لا تزال محاطة بالأعداء بعضهم كسر أهم هذه الثغور ودخل الى الشام واحتل منطقة القلب... والآخرون ينتظرون. لم يكن المتنبي عنصرياً بمعنى من المعاني، كان عربياً معتزاً بعروبته، ولم يكن معنياً باللون بل معنياً بالمعنى.. وبما يمثله كافور وشعوب يرعاها العبيد كأنها غنم.. العبد بالنسبة الى العربي لم يكن الأسود أبداً، كان هناك عبيد بيض وحمر وصفر وبألوان الطيف. وفي عصر النبوة كان هناك عبيد من أصول عربية وحبشية ورومية وفارسية. كان هناك عمار اليماني، وبلال الحبشي، وصهيب الرومي، وسلمان الفارسي. العبودية عند العرب كانت حالة وليست لوناً وأعتقد بانها بقيت كذلك الى ان اختفت العبودية من الواقع او كادت! وتعجبني، بل تهز وجداني، المطالع الغزلية عند أبي الطيب، ومنها تلك المطالع التي أتملى فيها الروح القومية والغضب العاصف "يا أمة ضحكت من جهلها الأمم" أَليس في هذا السطر ما يصلح ليكون شعاراً لأمتنا في وضعها الراهن. وأتذكر أنني كتبت ذات مرة أدعو الى كتابة هذا الشعار عند مداخل مطاراتنا وموانئنا العربية لعلنا نصحو ونتذكر ما وصلت اليه حالنا او بالأصح ما استمرت عليه حالنا منذ عصر أبي الطيب حتى كتابة هذه الكلمات. وما أكثر ما أفدنا من المتنبي، من ذلك المتمرد الحزين، المستسلم، الرافض، المؤمل، الذي اختزل همومنا وأمراضنا في أبيات قليلة من شعره الجامع - ببذخ ومهارة - بين الشعر والحكمة. لا أخفي انني حاولت في بداية حياتي الأدبية تجنب المتنبي وحاولت كذلك ان أكرهه، ان أكره تهالكه في البحث عن إمارة وتكريس شعره لمدح الحكام واتباع الحكام، لكنني عدت اليه في المرحلة الأخيرة، ومنذ عشرين عاماً، عدت اليه معتذراً ومقدراً ظروفه وتوهج أحزانه وأشجانه وقدرته على سبر أغوار النفس العربية بكلمات معدودة "ما لجرح بميت أيلام" و"نقص القادرين على التمام". ليست الحكمة وحدها التي تشدني الى أبي الطيب. كثر هم الشعراء الحكماء الذين لا أطيق الاقتراب منهم ومن كل ما يرسلونه من حكم، ولعل ما يشدني الى المتنبي جرأته وهذا التوهج الانساني، ذلك الحريق الذي يكاد القارئ المتمكن يشمّ فيه رائحة احتراق قلب ذلك الشاعر الكبير. انه واحد من شعراء قلائل في العالم يمكن ان يقال للواحد منهم - بلا مبالغة - انه شاعر لكل العصور. أخيراً نحن لا نستعيد المتنبي من الماضي، بل هو الذي يستعيدنا. واستعادة الماضي عند بعض شعوب العالم السعيدة تأتي لإثبات التجاوز، أما بالنسبة لنا فاستعادة الماضي تأتي من منطلق التحسر عليه. يكفي ان المتنبي كان يسافر من المشرق الى المغرب ومن المغرب الى المشرق بلا جواز ولا وثيقة هوية حتى لو كانت بعض أسفاره تلك تتم في جنح الليل. قاسم حداد: مديح الذات العليا ثمة مستويات مختلفة لنص المتنبي في التجربة الشعرية العربية المعاصرة. هذه المستويات سوف تتصل دائماً بقدرة الشاعر المعاصر بصفته القارئ الخاص وهو يخترق النص، ثم يعيد الاختراق. ولئلا أتكلم الا عن تجربتي الشخصية، كما يقتضيه حال هذا الملف، فقد تكون تجربتي الشخصية نموذجاً ربما تكرر، بدرجات مختلفة النوع والدرجة، لدى عرب معاصرين سواي. كان ما اقترحته المناهج المدرسية الأولى بمثابة الطرد المبكر عن نص المتنبي، ليس لبلادة الاختيار التقليدي فحسب، ولكن لفجاجة درس الشرح والتفسير الباليين اللذين اعتمدهما ذلك المنهج. وهذا ما جعلني بعيداً تماماً عن هذا النص، مثله مثل التعامل السائد مع النصوص التراثية. وبعدما بدأت في تلمس حجارة الطريق الشعري الأولى، كنت غالباً ما أصادف المتنبي شاعراً يتقاطع مع كل التجارب الشعرية العربية في شتى العصور، من غير ان أدرك المعنى الابداعي لهذا التقاطع، على الأقل لفرط الحماسة الشعرية الحديثة التي كانت تضع متن التراث في مجمله في خانة التقليد، الى جانب ترويج ما يمكن وصفه بالشاعر المداح لكي يجري توصيف تجربة المتنبي، سياسياً وأخلاقياً، حتى انني قرأت لأحد الشعراء الشباب وقتذاك تصريحاً يقترح برمي ثلثي شعر المتنبي في زبالة التاريخ. وأظن ان مثل هذه الاجتهادات سوف تظل نتيجة للحجاب السميك الذي أسسته النظرة المزدوجة الجاهلة تقليداً وتحديثاً التي لا ترى في نص المتنبي سوى المدائح المنظور اليها من خارج النص بوصفه ابداعاً. لكن الأمر سوف يتوقف دائماً على التقدم في السن والتجربة والمعرفة، ومن ثم موهبة القارئ التي أعتقد بأنها لا تقل خطورة عن موهبة الكتابة. ويمكن القارئ، فيما يقترب أكثر، مدججاً بحريته، ان يكتشف الطبقات والمستويات الأكثر عمقاً لنص المتنبي، ليس باعتباره نزوعاً تعبيرياً عن الروح الشامخ الذي يصدر عنه الشاعر، ولكن خصوصاً، لأن مثل هذا النص، الموصوف بالمبالغة في الذهاب الى المديح في معظم تجلياته، هو في الجانب الخفي منه، شهوة متواصلة لحضور الشخص الانساني بنوع من الفعالية الشعرية التي كانت تشحذ لغة التعبير بأكثر المنحنيات البشرية تعقيداً وأشدها مضاضة خصوصاً اذا وضعنا في الاعتبار اقتراحاً مفاده ان المتنبي لم يكن يمدح، في العمق، شخصاً غير ذاته العليا. وهذا هو بالضبط ما يجعل نص المتنبي أكثر تعقيداً مما يبدو. أقول مما يبدو، وأنا أستعيد غير مرحلة من المراحل التي كنت أعود اليها لقراءة المتنبي مخترقاً طبقة بعد أخرى، مكتشفاً هذه الجماليات التي تشي بالسر الكامن في قدرة المتنبي على "صقل" اللغة الشعرية. وفعل "الصقل" هنا هو غير فعل التجديد الذي لم يكن حظ المتنبي فيه يضاهي حظ شعراء غيره من أمثال أبي تمام وأبي نواس. لكن الأمر ليس بهذه البساطة، لأن الشاعر من شأنه ان يجد ذاته الابداعية في تجليات شتى، ربما ضاهت التجديد التقني ومسّت الجوهر البعيد في لحظة من اللحظات الابداعية.لهذا أعتقد بأن سر المتنبي كان في قدرته على صقل جماليات البلاغة العربية بشهواته البشرية، كمن يشحذ الحجر الكريم على كبد مفدوح. ولئلا يبقى المتنبي ذريعة يتمترس بها المداحون المعاصرون، سوف يستدعي الأمر دائماً موهبة مثل المتنبي قادرة على اقناعنا بأنها أكثر أهمية، ليس فقط من الأمراء والخلفاء والملوك، ولكن، خصوصاً، أكثر براعة من مجرد عرض الأحجار الفاسدة على قارعة الطريق. كان المتنبي يجعلني أشعر، كلما عدت لنصوصه، كما لو أنني جمرة ملتهبة متأججة، لا تهدأ في مكان ولا تستقر، ولا يقدر شخص على الامساك بها، وهذا هو بالضبط الدرس الذي يحضرني كلما تعلق الأمر بالمتنبي، شخصاً ونصاً. وأظن انه لكي يتسنى للأجيال الجديدة الالتذاذ بإنجاز المتنبي، لا بد من تفادي الحجاب السميك الذي يحول دون اختراق النص، هذا الحجاب المتمثل في النظر الى نص شعر المتنبي بصفته مادحاً، ففي هذه النظرة أكثر من القصور الفني، لأنها تشي بتجريد النص من الشخصية الانسانية المحتدمة للشاعر، أي شاعر كان. محمد علي شمس الدين: شاهد دائم ومغامر غريب المتنبي من أشد الشخصيات الشعرية التاريخية المؤثرة في تشكيل الوجدان المركّب الذي تصدر عنه الكتابة لديّ. ويكاد يكون يومياً على الرغم من مرور ألف عام وأكثر على شعره.. وتباين زمانه وزماننا. أراه ضرورة من ضرورات الشحنة النفسية المتوّترة والقوة الدرامية للشعر. هو نيتشوي قبل نيتشه بألف عام. محطّم أصنام. مغامر بلا حسابات. غريب في غربة مستمرة. غامض في شعره ونسبه ومعتقداته الدينية والسياسية. أهو علوي؟ قرمطي، أيقول بالإمامة؟ أيظنّ أنه إمام مثلاً؟ أحقاً - كما يتواتر عنه لدى الاخباريين - أنه ادّعى التنبوء صبياً فلوحق وسجن ثم تاب، فأطلق سراحه؟ أم أنه كان طالب سلطة في عصر المغامرات السياسية والدينية... فما أكثر من ادّعوا الإمارة أو الإمامة في زمانه وفي الصحراء الممتدة بين السماوة وبلاد الشام، في إبّان تفكك السلطة المركزية للخلافة العباسية، ونشوب الأطراف على المركز، وظهور علامات الأفول للحضارة العربية الاسلامية التي وصلت الى ذروتها العالية في عصر المتنبي القرن الرابع للهجرة، العاشر للميلاد وبداية انحدارها على أيدي الفرس والأتراك والتتار المغول.. حاول مع سيف الدولة الحمداني بنفس ملحمي عالٍ.. ثم غادره. سرّ ديمومة المتنبي هو انه شاهد دائم على مرض الدواخل وتلعثم النفوس بين لا ونعم وسوء النيات وكشّاف للضغائن، في شعره من جهة، ومطلق حكمة مرّة باستمرار. مثلما هو صاحب غواية عجيبة ومعجبة لجهة عبادته للمجد والسلطة بالقوة المطلقة... فالسلطة لذّته ومبتغاه، وتكاد تصل لحد المتعة والعبادة والمرض. لديه مفهوم إمامي لذاته يقرب من الشذوذ فهو مشحون بالاستعلاء الميتافيزيقي: "وإني لمن قومٍ كأن نفوسهم / بها أنف أن تسكن اللحم والعظما" أو كقوله: "بمَ التعلل لا أهل ولا وطن / ولا نديم ولا كأس ولا سكنُ أريد من زمني ذا أن يبلّغني / ما ليس يبلغه من نفسه الزمنُ" فشعره مزيج من الوهم والفلسفة والخيال. يقول العكبري في شعره: "شعر المتنبي يخرق العقول". لماذا؟ نسأل ونجيب: لأنه شعر فضّاح مقتحم كشّاف أستار غوّاص على النقائض، يلعب على السلب بالسلب والسلب بالايجاب ولا يخشى ان يقول في كافور الاخشيدي: "أبا كل طيب لا أبا المسك وحده..."، وأن يقول فيه أيضاً: "وما كان ذلك مدحاً له / ولكنه كان هجو الورى". حتى انبرى من يؤلف كتاباً في قلب كافوريات المتنبي أي جعل كل بيت من أبياته في مديح كافور ينطوي في الوقت عينه على نقيضه... فالايجاب سلب في وقت واحد. قال أرسطو: "الأشكال لاحقة بأشكالها كما أن الأضداد مباينة لأضدادها". وقال المتنبي: "وشبه الشيء منجذب اليه / وأشبهنا بدنيانا الطُغام". وهذا هو بالضبط "خرق العقول" الذي ما زال يمارسه المتنبي في أبياته حتى اليوم. سأضيف أخيراً سبباً من أخطر الأسباب لديمومة المتنبي، ولعلّ عليه أسّس أبو العلاء المعري رأيه في شعره، واختار للمختار من شعر المتنبي عنوان "معجز أحمد". يقول ابن جنّي في شرحه ديوان المتنبي: "إن قوله في ممدوحه: قد شرّف الله أرضاً أنت ساكنها / وشرّف الناس اذ سوّاك إنسانا"، قد أعيا المجرّبين في استبدال حرف بآخر وكلمة بأخرى.. وفي جواب أبي العلاء المعري لابن فرجة الذي حاول ذلك، قال: "أتظنّ أنك تقدر على إبدال كلمة واحدة من شعره بما هو خير منها؟ فجرّب إن كنت مرتاباً..". "وها أنذا أجرّب ذلك منذ زمن فلم أعثر بكلمة لو أبدلتها بأخرى كانت أليق بمكانها.. ولجرّب من لم يصدّق يجد الأمر على ما أقول". وهي مسألة شديدة الخطورة، في الشعر، بعد عصمة النص القرآني، على ما نرى... علماً بأنه ليس كل شعر المتنبي بمثل ما تخيّله او افترضه أبو العلاء. أحمد عبدالمعطي حجازي: شاعر ماهر ... ولكن بعيد ومتعالٍ اقرأُ المتنبي الآن باعتباره صانعاً ماهراً جداً ولكن لا أشعر مع شعره بتعاطف، لأني لا أرى أنه يقدم لنا في قصائده تجارب حميمة. المتنبي يقدم في شعره خلاصات حكيمة أكثر مما يقدم تجارب حميمة. والمتنبي هو سيد من سادات الكتابة العربية، لكنه بعيد ومتعال ولا يخلو شعره أحياناً من تكلف ظاهر. لكن الشعراء المحترفين المقدرين لصناعة الشعر والذين يثيرهم التمكن الذي يكاد يكون مطلقاً من اللغة، لاپبد من أن يعجبهم أيضاً. ولا شك أنه يثير إعجابي. أمام المتنبي كأنني إزاء لاعب سيرك عظيم. في السيرك أنواع من الألعاب الخطرة، هذا النوع من الألعاب شبيه جداً بشعر المتنبي. شعره أيضاً يشبه تسلق الجبال، الوصول إلى قمة الهمالايا. هذا نوع من الغوص على أعماق خطرة، كأن يعبر الإنسان صحراء لم يعبرها أحد من قبل. في شعر المتنبي قدر كاف جداً من الشجاعة والاندفاع نحو المجهول وقهر الصعاب، وقول كل ما يستطيعه. ولا أظن أن معنى من المعاني خطر للمتنبي ولم يستطع أن يسيطر عليه. مع هذا أجد أن طبيعة العالم الذي كان يفكر فيه ليست شعرية في جوهرها. وهذا الكلام هو عن عامة شعر المتنبي وليس كل شعره. فهناك قصائد للمتنبي حقيقية بالمعنى الذي أفهمه أنا للشعر