في التاريخ البشري هناك منعطفات أحدثت قفزات للبشرية باتجاه معارج التحضر والتنوير والتطور والرقي، وهناك منعطفات أحدثت نكسة ونكوصا إلى ثقافة العنجهية والهمجية والتخلف والانحطاط والشوارعية/ السوقية، وهذا المنعطف الأخير هو سبب كل ما نراه بالعالم حاليا من ظواهر عامة سلبية ماديا ومعنويا تسببت بتدمير جودة الواقع المعيشي والاقتصادي والاجتماعي والأمني لغالب دول العالم؛ فحتى بدايات القرن الماضي كان الاتجاه والتيار السائد والرائد هو تيار ثقافة الرقي، وهذا سبب أن أفلام الأبيض والأسود تسمى بالعصر الذهبي في الشرق والغرب لأن الناس بالواقع كما على الشاشات كانوا يتصرفون بشكل ارستقراطي راق وتقدمي مهما كان تواضع مستواهم المادي، لكن حصلت النكسة والنكبة الجذرية عندما تم الانقلاب على هذه الثقافة الراقية وتم استبدالها بما توصف بثقافة «الرعاع/ قاع المجتمع» التي يتم التعبير عنها بمصطلحات مثل «الثقافة الشوارعية/ السوقية» وهي ثقافة المهمشين غير المتعلمين الذين يحترفون أعمال الجانب المظلم كالبلطجية والمجرمين والمنحرفين والمدمنين و+18، بالإضافة لعودة الخطاب المتخلف الرجعي المعادي لقيم التحضر والتطور، وتم نشره عبر الخطاب العام والإعلام والصحافة والروايات والأفلام والمسلسلات والأغاني وصناعة الترفيه عموما، لكن بالنسبة لثقافات ما تسمى بالدول المتقدمة وإن طغى على مواد ترفيهها تيار الثقافة الشوارعية، لكن لا يزال هناك حد فاصل يفصل بينها وبين التيار الآخر الذي يمكن تسميته بتيار «الوعي الأعلى» لأنه يمثل درجة ونوعية وعي أعلى وأرقى وأكثر موضوعية وعقلانية واستنارة وأخلاقية وله حضور وتمثيل بالإعلام والصحافة والفكر والأدب والفنون والأفلام والمسلسلات، لكن الحاصل بالعالم العربي هو أن تيار «الوعي الأعلى» تآكل بالكامل وما عاد له وجود يذكر في أي صعيد ولا وسيلة تعبير عامة فردية وجماعية، ومن أبرز مظاهر هذا الحال أن حتى مقالات الصحف ومواد الإعلام التي يفترض أنها تمثل الواجهة والبوصلة القيمية والفكرية العليا للمجتمعات باتت مجرد «إعادة تدوير» و«اجترار» ل«شوارعية» (تويتر) ومواقع التواصل لا أكثر، بما في ذلك آراء مغلوطة تهين ذكاء الجمهور، ومناكفات بمستوى نضج مراهق، وسباب «شوارعي» و«ردح» ما كان يمكن تخيل أن تنشر بوسيلة عامة وتصدر عن شخصية عامة يفترض أنها تمثل القيادة الفكرية والأخلاقية للمجتمع! وسببها الرئيسي هو؛ الكسل عن ترقية الذات بتغذيتها فكريا ومعرفيا وثقافيا ونفسيا وروحيا بما يجعل صاحبها منتجا لثقافة واعية راقية تليق بأن تمثل واجهة للبلد ويمكنها القيام بدورها الأساسي وهو؛ تمثيل القيادة الفكرية الأخلاقية الصانعة للثقافة العامة التي تقولب العقلية والنفسية الفردية والجماعية على مثالها الملهم. * كاتبة سعودية [email protected]