في 13 شوال 1434ه الموافق 20 أغسطس 2013م نشرت لي صحيفة «عكاظ» مقالاً تحت عنوان (التربية الموسيقية)، تناولت فيه أهمية الموسيقى وارتباطها بتاريخ وحضارات الشعوب. وقد ذيلت المقال بالدعوة لتحصين شبابنا والأجيال القادمة بالتربية والثقافة الموسيقية. وقد أثار ذلك المقال حفيظة شريحة شاذة ومريضة من المجتمع التي اعتبرت المقال دعوة للفسق والانحلال، إلى آخر الألفاظ التي لا يليق ذكرها في هذا المقام. واليوم، وبعد أن تم إقرار إدخال الثقافة والموسيقى ضمن المناهج التعليمية والتي تمخضت عن اجتماع بين وزير الثقافة الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان آل سعود ووزير التعليم الدكتور حمد بن محمد آل الشيخ في السابع من نوفمبرالحالي بالاتفاق على التعاون بين الوزارتين في إدراج الثقافة والفنون بأنواعها بما فيها الموسيقى ضمن مناهج التعليم العام والأهلي، وذلك يشمل المدارس والجامعات، والذي تم تعزيزه من قبل سمو وزير الثقافة في كلمته التي ألقاها في مؤتمر اليونسكو يوم 15 نوفمبر 2019م، مؤكداً أن ذلك يأتي تمشياً مع رؤية المملكة 2030، التي أطلقها سمو ولي العهد بتوجيه ورعاية من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان حفظهما الله. فقد قوبل هذا القرار بترحيب وقبول من كافة أفراد المجتمع، وجعلنا جميعا ولأول مرة نشعر بانتمائنا إلى هذا العالم الكبير من حولنا بعد أن كنا في عزلة ثقافية وحضارية عنه. ويأتي هذا القرار الذي يعتبر ثورة تصحيحية لتحويل المجتمع السعودي من حالة مرضية متأصلة إلى حالة سوية، والذي سوف يساهم بشكل كبير في القضاء على الأفكار المتخلفة والمتحجرة التي كانت تشكل عقل غالبية أبناء ما بعد زمن ما اصطلح على تسميته تجاوزاً ب «الصحوة» وهو في الحقيقة زمن «الكبوة». فغياب ثقافة الموسيقى والمسرح عن حياتنا على مدى ثلاثة عقود وأكثر وتكريس المناهج الدينية المتطرفة في مدارسنا وجامعاتنا قد انعكس سلباً على سلوكيات وتفكير الإنسان السعودي الذي أصبح بعضه فريسة سهلة للانخراط في صفوف حركات التطرف والإرهاب. فالموسيقى تعتبر من أهم العلوم التي ارتبطت بحياة الإنسان في كل نواحي الحياة، لدرجة أنها أصبحت جزءاً من تكوينه وعنصراً هاماً في مناهج التربية بالنسبة للشعوب المتحضرة. وعلاقة الموسيقى بالتربية علاقة وثيقة، فكلاهما يعتمد على الآخر، فالتربية تعتمد على الموسيقى في بناء شخصية الإنسان بشكل عام والطفل بشكل خاص الذي سينمو ويصبح شابا له قيمته في المجتمع. والموسيقى تحتاج إلى أساليب التربية ومفاهيمها في التعليم لنشر التذوق الموسيقي الجيد والوصول إلى إمكانية تحقيق الإبداع الفني لذوي المواهب في هذا المجال. والتاريخ يخبرنا بأن الحضارة الإغريقية القديمة قد اهتمت بالموسيقى على اعتبار أنها أداة من أدوات التربية قبل أن تكون فنا جميلا يبتغي لذاته، فقد جعل أفلاطون للدولة حق الإشراف على الموسيقى لما لها من تأثير في تكوين الشخصية المتزنة المتناسقة، وكذا في تنمية ملكة الخلق والابتكار. لذلك، اتخذ اليونان من الموسيقى مادة أساسية في منهج التعليم، وكانت وسائل التربية لديهم لا تتعدى الموسيقى والرياضة البدنية حتى عصر الأسكندر. يقول الفيلسوف أفلاطون، إن علم الموسيقى لم تضعه الحكماء للتسلية واللهو بل للمنافع الذاتية ومتعة الروح والروحانية وبسط النفس وترويض الدم. أما من ليس له دراية بذلك فيعتقد أنه ما وضع إلا للهو واللعب والترغيب في لذة شهوات الدنيا والغرور بما فيها. وقال أحد الحكماء، إن الغناء فضيلة تعذر على المنطق إظهارها ولم يتعذر على النفس إخراجها بالعبارة فأخرجتها النفس لحنا موزونا فلما سمعتها الطبيعة استلذتها وفرحت وسرت بها. وعليه، فمن المهم جداً البدء في إدخال مادة التربية الموسيقية في مناهج المدارس الابتدائية أولاً، لأن عالم الطفل له سماته المميزة والمختلفة عن عالم الكبار، فهو يتعلم ببطء ويستوعب في هدوء إيقاع الحياة، وهو قادر أن يؤقلم نفسه أكثر من الكبار مع تغيرات واتجاهات ومؤثرات بيئته، وبذلك فهو يؤسس لمرحلة خالية من العقد والموروث الذي لا ينسجم وطبيعة النفس السوية. وقد استخدمت الموسيقى في مدارس الأطفال في غالبية دول العالم المتحضرلتحقيق أعظم الأهداف التربوية والاجتماعية والفكرية. فهي تساعد على تطوير الإدراك الحسي للفرد، وتنشيط العقل، وتسهم في علاج الخجل والانطواء. وكانت ل (بستالوتزي) المربي السويسري المعروف، آراء من حيث ضرورة الموسيقى لتكوين الشخصية المتسقة، بينما ينادي (فروبل) المربي الألماني بجعل الموسيقى والفنون التشكيلية محور تكوين الطفل في المرحلة الأولى من حياته التعليمية، حتى ينال كل طفل فرصة النمو الوجداني الكامل. ولكي تستكمل مسيرة التنمية فلا بد من أن يصاحب الانفتاح على الثقافة والفنون كالموسيقى والمسرح انفتاح اجتماعي مقنن، وإعطاء المرأة حقها في المساهمة في تشكيل ثقافة وحضارة الوطن جنباً إلى جنب مع شقيقها الرجل من خلال المشاركة الفعالة في كل الأنشطة الاجتماعية والثقافية والرياضية وحتى السياسية. وما تشهده المملكة اليوم من أنشطة موسيقية وحفلات ترفيهية إلا مثال على تصميم القيادة على دفع المملكة لتتبوأ مكانتها الطبيعية والمستحقة بين كافة الأمم المتقدمة. وأن تفاعل المجتمع السعودي وتجاوبه مع هذه الأنشطة الترفيهية بهذا الحماس الكبير يعكس مدى تقبله لهذا التغيير الذي طال انتظاره له لعدة عقود. * كاتب وباحث وملحن ومؤلف موسيقي [email protected]