ظاهرة التكتلات الإقليمية سمة هذا العصر التي برزت فيه مختلف التكتلات السياسية والاقتصادية في أوروبا وشرق آسيا على وجه التحديد، بهدف بلورة تفاعلات إيجابية وخلق بيئة يسودها التعاون والأمن والاستقرار وازدهار الشعوب. من هذا المنطلق، تعمل دول مجلس التعاون الخليجي، فرادى وجماعات، على ثني قطر عن سلوك سياسات تؤذي دول المجلس وتعبث بأمنه واستقراره، وتعرّض مستقبل أبنائه لمخاطر التدخلات الخارجية ذات الأجندة المريبة. ما يصدر عن الدوحة أمرٌ يتجاوز أدبيات السياسة إلى استقالة العقل، وهو منحى عدمي يعكس انعدام الثقة وتجذر الشك والريبة لدى صنّاع القرار هناك؛ لأن العقل المستنير هو القادر على انتشالهم من مآزقهم العديدة في شتى المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية، لأنّ العقل يعمل على مقاربة الحلول، ويسهم في تفكيك وتجاوز إشكاليات الواقع ومعطياته. إنّ التمايز في سياسات الدول بناء على مصالحها أمر مشروع ومفهوم؛ فهذه سلطنة عمان لها سياستها وعلاقاتها الخارجية التي تقوم على ثوابت خاصة بها، وتحرص فيها على إقامة علاقات صداقة مع العالم واعتماد سياسة حسن الجوار وعدم التدخل في شؤون الآخرين، واتخاذ المواقف السياسية بوعي رشيد، بعيداً عما تقوم به قطر من تدخل وإشاعة الفتن في الخليج والدول العربية أيضاً. من دون تجنٍ كبير على الحقيقة، يمكن للمراقب الجزم بأنّ ما تقوم به قطر من سياسات وسلوك يؤكد انعدام الرؤية الإستراتيجية لهذا البلد الشقيق؛ فلا توجد سياسة عاقلة أو راشدة تعمل بهذه الوتيرة العالية على احتضان وإيواء المعارضين للأشقاء، أو الإسهام في محاور الشر التي لا تريد الخير للعرب، أو دعم الجماعات الإرهابية والفكر المتطرف وخطاب الكراهية، أو القيام بحملات إعلامية مغرضة بشتى الوسائل وبمبالغ ضخمة وتوظيفها لتشويه الرأي العام الدولي، وشراء ذمم المؤسسات الإعلامية، والعبث بالحقائق الساطعة كعين الشمس. التناقضات في ممارسات السياسة الخارجية القطرية أمر يبعث على السخرية، ويثير استهجان الجميع إلا أولئك الذين يعبثون بها مثل عزمي بشارة وعصابته، ودعواتهم المتشنجة وسجالاتهم العقيمة التي لا تثير الغرابة فحسب، بل هي أشد بلاهة من ذلك؛ لأنها لا تحتكم للعقل والحكمة والتبصر في تحمل المسؤوليات الوطنية، وتفهّم الظروف القلقة التي تعصف بالمنطقة. قدمت دول مجلس التعاون لقطر سلّماً للنزول عن الشجرة، وفتحت أمامها نافذة أمل عبر النقاط التي أوضحتها للخروج من الأزمة، وعبر الجهود التي بذلتها وتبذلها دولة الكويت، إلا أنّ العناد والحقد والتعنت القطري أطال أمد هذه الأزمة وفاقمها، وهو ما يدفع الشعب القطري ثمنه، من جيبه وأمانه وتوتره الدائم. المشكلة ليست لدى دول المقاطعة، بل في عقل صانعي القرار في قطر الذين يفكرون بنرجسية مأزومة ويتوهمون أموراً غير موجودة وأفكاراً غير حقيقية، وهذا ما جعل من الأزمة معضلة، وبدّد النوايا الحسنة والمشاعر الصادقة من قبل دول المجلس لبدء صفحة جديدة من التعاون الخليجي الفعال، بحيث يصبح المجلس محوراً إقليمياً فاعلاً ومرهوب الجانب. أيّ حديث لحل هذه الأزمة دون موافقة قطر على الكفّ عن عبثها، وموافقتها على المبادئ المحدّدة لإثبات جديتها في الحوار، هو ضرب من المغالطة يسهم في بعثرة الجهود، بدلاً من تصويب القرار السياسي القطري، وإعادة العقل الى سياسات الدوحة، وبعث الحكمة في الرؤية التي علاها الكثير من الغبار! * كاتب ودبلوماسي سعودي سابق