المشاعر والأحاسيس السلبية قد تفقد الإنسان القدرة على رؤية الآخر على نحو صحيح. كما قد تكون «الأنا» عائقاً يحول دون الفهم المتبادل بين البشر، وسداً حاجباً يمنع التواصل الإيحابي الفعال بينهم، وتبادل الخبرات والمعارف والروئ والمنافع. المشاعر والأحاسيس السلبية أو الإيجابية عندما تصبح هي فقط معيار التقييم، فإنها تشوش الصورة وتؤثر على دقة الرؤية والحكم؛ ولهذا يقول المثل الشعبي: «اللي نحبه نبلع له الزلط، واللي نكرهه نتمنى له الغلط». كما أن القولبة والصور الذهنية الثابتة التي تصنع قوالب وأطرا معينة للحكم على الآخرين، تحول دون معرفة الكثير عنهم أو فهمهم على نحو أفضل. وتلك القوالب متوافرة ومتعددة ومتنوعة؛ فهذا رجل خفيف الظل، وذاك إنسان صعب وبه حدة. وهذا إنسان مستهتر، وذاك إنسان جاد. وهذا إنسان تقليدي محافظ، وذاك حداثي منفتح، وغير ذلك من قوالب نضعها ونثبتها ونحكم من خلالها على البشر. وتلك القوالب آليات مغلوطة للمعرفة والفهم والاستيعاب، ونحن نستخدمها بتلقائية وبكثير من الثقة في النفس، ويدفع الإنسان خسائرها من عمره وفرص نجاحه ليستيقظ عندما يكتشف في مرحلة متأخرة من حياته أنه لا يعرف محيطه الإنساني والاجتماعي والمهني على نحو صحيح، وغير مدرك لكافة جوانبه، بالرغم من طول إبحاره في رحلة الحياة. ولهذا أقول: إن الحقيقة ليس لها وجه واحد أو بعد واحد، فهي متعدد الأوجه والأبعاد. وكل إنسان تختلف الحقيقة لديه حسب نشأته وتكوينه، ومكانه وموقعه، وعلمه وثقافته، ومحيطه ومجتمعه، وقدرته المادية والذهنية والنفسية. الحقيقة مركبة مُعقدة لا يمكن فصلها عن سياقها وظروفها، وهي أبعاد عدة وصور شتى، مترابطة ومنفصلة، مختلفة ومتناقضة، ومتجاذبة ومتنافرة ومتباعدة، ولا توجد حقيقة ثابتة أو مطلقة، ولهذا فنحن نحتاج لإدراكها إلى وعي متقدم، وقدرة على التفكيك والتركيب والفحص والنقد والتحليل. وفي حقيقة الأمر، فإن تلك التأملات حول الحقيقة قد مرت بخاطري عندما كان صديقي يبوح لي بما يحمله في داخله من مشاعر سلبية نحو شخص مشهور، عمل معه وعرفه جيداً، واقترب منه. وهذه المشاعر السلبية قد منعته من انتهاز فرصة وجوده مع هذا الشخص من أجل تحقيق تقارب أكبر وعلاقة أفضل وتحقيق مصالح مشتركة. وفي ظني أن الحواجز التي تصنعها المشاعر والأحاسيس السلبية، وتبريرها بقناعات داخلية مضللة، ثم وضع الآخرين بناء عليها في صور ذهنية واحدة وثابتة، تجعل الكثير من الأحكام التي يُصدرها الإنسان على الآخرين قاسية ومفتقدة العدالة والإنصاف؛ لأنها لا ترى الآخر في سياق تكوينه، وحضوره متعدد الجوانب، ولا تحاول فهم منطلقاته ودوافعه. والإنسان بصفة عامة نجده عندما يتعلق الأمر بالحكم على الآخرين، قادرا على خداع ذاته وتأسيس قناعات مُضللة عنهم، وصنع معايير حاكمة قاسية لتقيمهم. وعلى النقيض من ذلك يستطيع لو كان الاختيار أو السلوك متعلقاً به، إيجاد كل المبررات التي تسوغ له أفعاله. ولهذا فإن الإنسان لكي يتصف بالعدالة والإنصاف، ولكي يحقق ذاته ويفعل وجوده على نحو أفضل، فهو مطالب بإعادة اكتشاف ذاته وواقعه، وإعادة التفكير في مسلماته وقناعاته ومفاهيمه. كما أنه مطالب بإعادة اكتشاف المحيط والسياق الذي يعيش ويعمل فيه، والسعي لاكتشاف الآخر -سواءً الذي سقط من الصورة أو المشهد أو الذي لم يسقط- والحكم عليه بمعايير مرنة ومن خلال فكرة النموذج المركب، وليس النموذج أحادي النظر. إن عودة الوعي الغائب، ومدوامة التفكير والنظر والبحث والانهمام بالذات، والتحرر من قيود وأغلال الصور الذهنية الثابتة، سيُبدد القناعات المُضطربة المُضللة، والكثير من النواقص والنواقض الأخلاقية والنفسية، وسيجعلون الإنسان منشغلا بنفسه أكثر من إنشغاله بالآخرين، ومتحرراً من ثقل الشعور الدائم بالذنب وجلد الذات، ولهذا قال الفيلسوف الروماني سينيكا: «أي شيء سوف يكون أكثر جمالاً من عادة مساءلة ذاتك عما قمت به طيلة نهارك». * مستشارقانوني @osamayamani [email protected]