هو واحد من الشخصيات السياسية والإدارية المهمة التي برزت في حقبة بناء الدولة السعودية الثالثة بسبب علاقته الخاصة بالملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود، طيب الله ثراه. وهو في الوقت نفسه أحد الوجوه السياسية البارزة في بواكير ظهور المملكة العراقية على يد مؤسسها الملك فيصل الأول بسبب مكانته العائلية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في جنوبالعراق. وبهاتين الصفتين استطاع أن ينسج الكثير من الخيوط ويشارك في العديد من الاتفاقيات ما بين العرب والأتراك العثمانيين والإنجليز، ولاسيما اتفاقية الصبيحة (1914) بين الملك عبدالعزيز والشيخ مبارك الصباح والأتراك، واتفاقية العقير (1922) بين الملك عبدالعزيز والبريطانيين برئاسة «برسي كوكس» والعراقيين برئاسة «صبيح نشأت». كتب عنه الرحالة الأمريكي من أصل لبناني أمين الريحاني في كتابه ملوك العرب (الجزء الثاني ص 360 فقال: «هو حر الكلمة، سديد الرأي، يخلص الودّ لآل سعود وخصوصاً للملك عبدالعزيز، ويخلص العمل لوطنه الثاني العراق». ثم قال عنه في هامش الصفحة 38 إنه «صديق الملك عبدالعزيز الحميم ووكيلهُ في العراق وهو نجدي الأصل عراقي الإقامة ولا يزال للبداوة أثر في حديثهِ وفي سلوكهِ الحر». ووصفته عالمة الآثار البريطانية «مس غيرترود بيلGertrude Bell» التي عملت مستشارة للمندوب السامي البريطاني في العراق «بيرسي كوكس» في عشرينات القرن الماضي بالتاجر الكبير والشخصية الأقوى في البصرة بعد رحيل السيد طالب النقيب والشخص ذي الملامح الدقيقة البديعة من تلك التي يتسم بها عرب قلب الجزيرة العربية. وقال عنه المؤرخ محمد بن عبدالرزاق القشعمي في الصفحة ال123 من كتابه «معتمدو الملك عبدالعزيز ووكلاؤه في الخارج» الصادر عام 2015 إن «الله ميزه بالحكمة والكياسة والفطنة مما أهله لأن يكون وسيطا في أكثر من مؤتمر، ولأن يكون محاورا محنكا ومفاوضا أريبا ومستشارا أمينا». وخصّه الشاعر العراقي الشهير «معروف الرصافي» بقصيدة تطرق فيها إلى خصلتين من أهم خصاله، وهما الحكمة والصدق فأنشد: عبداللطيف بفضله جعل الورى أسرى مكارم أسرة المنديل حر الضمير مؤيدٌ بفطانة يرمي برأي في الأمور أصيل إن قال حقا قاله بصراحة لم يخش لومة لائم وعذول كما وصفه الرصافي بقوله: «وجه تنبعث منه الوجاهة، أسمر اللون، خفيف اللحية، صلت الجبين، يرسل إليك من عينيه نظرات تنبعث عن ذكاء متوقد، وفطنة لامعة». أما الباحث الكويتي يعقوب يوسف الإبراهيم فقد تحدث في مقال له بجريدة الشرق الأوسط (26/2/2005) عن قصره الشهير المعروف ببيت الباشا على شط العرب والذي بناه في عام 1925 وتوفي فيه، فقال ما مفاده إنه تحفة معمارية نفيسة جسدت الطابع التراثي المعماري للبصرة وامتزجت فيها الفنون الهندية والفارسية والتركية من الخارج والفنون الأوروبية من الداخل، وأن صاحبه زوده بأحواض الاستحمام (البانيو) وثريات الكريستال وخزائن الكتب والملابس من الخشب المحفور الفاخر، وبلط أرضياته بالمرمر الأبيض والأسود ثم فرشها بالسجاد العجمي الفاخر. وقريبا من هذا كتب السير «رونالد ستورس» Ronald Stor في الصفحة 281 من مذكراته التي صدرت عن المركز القومي للترجمة بمصر تحت عنوان: «توجهات بريطانية شرقية» (تعريب رؤوف عباس) ما مفاده أنه أثناء زيارته للبصرة سنة 1917 زاره، فوجد «بيته أكبر وأحسن من بيت الشيخ الإبراهيم، وهو أعلى بيت رأيته في تلك الناحية، ينتمي إلى الطراز العربي لأواخر القرن التاسع عشر». ثم وصفه السير ستورس فقال: «هو رجل طويل القامة، يضع الكوفية والعقال على رأسه، شأنه -في ذلك- شأن الشيخ الإبراهيم، ولكنه يرتدي قفطانا من الحرير الفارسي، مطرزا، أبيض اللون، ويدخن النرجيلة، وقدم لنا قهوة جيدة، ويدرس ولده وبعض أقاربه في الكلية الأمريكية ببيروت، ولم يسمع شيئا عنهم منذ بداية الحرب، فعرضتُ عليه أن أتولى الاستعلام عنهم عن طريق القائم بالأعمال الأمريكي بالقاهرة (الوزير المفوض السويسري في نفس الوقت)». ذلكم هو عبداللطيف باشا المنديل، الشخصية التي تجد اسمها حاضرة في كل الأدبيات التي كتبت عن الحياة الاجتماعية والسياسية في ولاية البصرة قبل قرن من الزمان، بل تجدها حاضرة أيضا في التاريخ الحديث للبلاد المجاورة للبصرة بحكم تداخل الأحداث وتشابك العلاقات والمصالح. من جلاجل إلى الزبير ولد عبداللطيف بن إبراهيم بن فوزان بن منديل لأسرة نشأت في بلدة «جلاجل» من سدير بشمال الرياض، طبقا لعلامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر في كتابه «جمهرة الأسر المتحضرة في نجد» (الطبعة الأولى الجزء الثاني ص874)، حينما قال: «آل منديل في جلاجل، من الدواسر». وهم أبناء عمومة لآل السديري، ومنهم أحمد بن محمد السديري جد الملك عبدالعزيز لأمه، لذا قيل إن الملك عبدالعزيز كان يناديه ب«خالي». (القشعمي مصدر سابق ص113 وص116). أما تاريخ ميلاده ففيه عدة أقوال، لكن المرجح أنه من مواليد سنة 1875 اعتمادا على ما هو مذكور في جواز سفره الصادر في عام 1930. وأما مكان ميلاده فقد كان في الزبير بسبب نزوح والده إبراهيم المنديل إلى الأخيرة من جلاجل في عام 1837 وهو شاب يافع، وذلك رغبة منه في تحاشي الصراعات الدموية والقبلية التي كانت دائرة آنذاك في نجد. وفي الزبير، بدأ إبراهيم المنديل ممارسة التجارة ما بين البصرة وبغداد وبومباي، متخصصا في تصدير الحبوب، فحقق نجاحا مشهودا ولاسيما أن عمله التجاري تزامن مع بدء الشركات التجارية والملاحية البريطانية بالاهتمام بالبصرة واتخاذها مركزا تجاريا وطريقا قصيرا بين أوروبا والهند، طبقا لما ذكره عمار فاضل حمزة في موقع الأسر البصرية الإلكتروني. وهكذا تحسنت أحواله المادية بصورة لافتة، فصار من ذوي المكانة الاجتماعية والمالية المرموقة في جنوبالعراق، خصوصا بعدما أنفق جزءا من ثروته في بناء دار ضيافة للنازحين من عشيرته، واستحوذ بالشراء على بساتين نخيل شاسعة المساحة في مناطق من ولاية البصرة. وحينما توفي إبراهيم المنديل في عام 1895 عن عمر ناهز الثمانين، ترك وراءه ستة من الأبناء الذكور هم: عبدالمحسن، عبدالرزاق، يوسف، عبدالوهاب، عبداللطيف، خالد، علما بأن كلا من يوسف وعبداللطيف فقط مُنحا لقب الباشوية من قبل العثمانيين الذين كانوا يحكمون جنوبالعراق آنذاك. ومن أسباب منح الباشوية لعبداللطيف في عام 1914 دوره المهم في مؤتمر الصبيحة سالف الذكر والذي أثمر عن تحييد الأتراك العثمانيين واعترافهم بسيادة ابن سعود على الأحساء، وكذلك دعمه المالي للمشاريع الثقافية والخيرية في ولاية البصرة. علاقة المنديل بآل سعود قلنا إن عبداللطيف باشا المنديل ارتبط بعلاقة خاصة مع الملك عبدالعزيز. وفي هذا السياق يخبرنا محمد بن عبدالرزاق القشعمي (مصدر سابق ص115 وما بعدها) أن علاقة أسرة المنديل بآل سعود قديمة وترجع إلى زمن ضم الإمام عبدالعزيز بن محمد بن سعود أمير الدرعية لبلدة جلاجل سنة 1764، للحكم السعودي. ثم يفيدنا أن الإمام عبدالرحمن الفيصل آل سعود (والد الملك المؤسس) حينما غادر مع أسرته الرياض للاستقرار في الكويت، زار الزبير سنة 1893 لمتابعة الأمور المالية، فحلّ ضيفا على إبراهيم المنديل. وبعد وفاة الأخير تولى ابنه الرابع عبدالوهاب المنديل تلبية احتياجات الإمام عبدالرحمن ومراجعة شؤونه المالية. ويضيف أنه بعد استرداد الملك عبدالعزيز لملك آبائه وأجداده تضاعفت مسؤوليات آل المنديل، وصارت مهمات عبدالوهاب المنديل تجاه آل سعود كبيرة فأشرك الأخير معه أخاه عبداللطيف المنديل. وكان مما فعله الأخوان المنديل آنذاك أن رتبا اجتماعا في الزبير بين الملك عبدالعزيز ووالي البصرة العثماني مخلص باشا، بُعيد انتصار الملك عبدالعزيز على ابن رشيد في معركة «الشنانة» عام 1904. لكن زيارة الملك عبدالعزيز تلك لم تكن الوحيدة لهم، فقد زارهم في أبريل 1911 ونزل في بيتهم، ثم زارهم مرة أخرى في نوفمبر 1916. وفي أعقاب وفاة عبدالوهاب المنديل صار أخوه عبداللطيف وكيلا سياسيا وتجاريا للملك عبدالعزيز في البصرة وبغداد، يتولى من هناك تصريف الكثير من الأمور الخاصة بالدولة التي كانت تتشكل آنذاك في الجزيرة العربية، ويسدي النصح والمشورة لمؤسسها الملك عبدالعزيز، وينافح عنها بما أوتي من حكمة وفطنة من خلال مناصبه الرسمية في العراق. ذلك أن عبداللطيف المنديل تقلد حقيبة التجارة في أول حكومة عراقية في عهد الملك فيصل الأول سنة 1920 وكانت برئاسة السيد عبدالرحمن النقيب، ثم تولى حقيبة الأوقاف في الحكومة العراقية الثانية التي شكلها عبدالمحسن السعدون سنة 1922. كما تم انتخابه لعضوية المجلس التأسيسي عن البصرة سنة 1924، ثم صار عضوا في مجلس الأعيان العراقي سنة 1929 قبل أن يستقيل في عام 1934 كي يتفرغ لشؤونه الخاصة. كسب ثقة المؤسس.. وأدار ميناء العقير كمكافأة من الملك عبدالعزيز للمنديل على إخلاصه وتفانيه في خدمة وطن آبائه وأجداده، فقد عهد إليه الملك، في بدايات تأسيس مملكته، بإدارة ميناء العقير بعد أن تم إجلاء الجيش العثماني والموظفين الأتراك عنه سنة 1913. فقام بعمل رائع لجهة إعادة تنظيم الميناء وتحسين موارده، الأمر الذي تضاعفت معه الأموال المستحصلة من الجمارك بنحو 10 مرات، طبقا لما ذكره «نجدة فتحي صفوت» في مقال له في صحيفة الشرق الأوسط (2/12/1996). وهناك رسائل تطرق إليها القشعمي (مصدر سابق ص121 وص122) متبادلة بين المنديل والملك عبدالعزيز، منها واحدة مؤرخة في 1/8/1334ه (3/6/1916) ويقول فيها المنديل ما مفاده إنه وصل القطيف، وتوجه منها إلى الجبيل، حيث التقى بعبدالله (بن علي آل خاطر) وإخوانه وقام بتحديد الأراضي الصالحة للسكن، والمخازن والدكاكين ومناخ القوافل، ومقر الإمارة، وأنه عاد بعد ذلك إلى القطيف للوقوف على سير العمل في إمارتها، وطلب من أميرها عبدالرحمن السويلم أن يطلعه على سجلات الواردات والمصاريف وبيانات النخيل والعقار، واجتمع بمدير جمرك القطيف مكي (المقصود السيد مكي بن علوي بن حسين المشقاب) ونظم له الجمرك مؤقتا ريثما يتم استقدام محاسبين مؤهلين. أما الرسالة الثانية فقد كتبها المنديل للملك عبدالعزيز بتاريخ 4/8/1334ه (7/6/1916) ليخبره بأنه قد عين أشخاصا للعمل في جمارك القطيف وسيهات ودارين وتاروت وصفوى، وقام أيضا بتكليف عمال لإصلاح خان العقير. ومن البراهين الإضافية على قوة علاقة المنديل بالملك عبدالعزيز وثقة الأخير غير المحدودة به، وجود رسالة مؤرخة في 30/1/1340ه (12/9/1923) من الملك إلى النجديين المقيمين في العراق يدعوهم فيها إلى المساهمة برأسمال الشركة الشرقية للتنقيب عن البترول التي كانت قد مُنحت امتياز التنقيب عن المعادن الغازية (البترول) في منطقتي الأحساءوالقطيف، على أن يكون الاكتتاب لدى المنديل. قاوم التتريك.. وأطلق اسم «السعودية» على حي بالبصرة ومن الأمور الأخرى الجديرة بالذكر في سيرة المنديل نشاطه السياسي وعضويته الفاعلة في الحركة الوطنية العراقية ضد محاولات التتريك وسياسات «حزب الاتحاد والترقي التركي» المناوئة للعرب وحقوقهم في الحرية والاستقلال. ومن هنا برز المنديل كقطب من أقطاب «الحزب الحر المعتدل» الذي أسسه وقاده طالب باشا النقيب من البصره في سنة 1911. وعندما تم حل هذا الحزب في سنة 1913 كنتيجة للضغوط العثمانية، سرعان ما نظم أعضاء الحزب المنحل أنفسهم في تنظيم سياسي جديد تحت اسم «جمعية البصرة الإصلاحية»، والذي احتفظ فيه المنديل بمكانته كعضو قيادي. وحينما سقطت البصرة بأيدي قوات الاحتلال البريطاني اختير المنديل ليكون ضمن الوفد الممثل لوجهاء البصرة للتفاوض مع قائد القوات البريطانية حول أوضاعها وشؤونها العامة. علاوة على ما سبق، عُرف عن المنديل عشقه وهيامه الشديدين بمدينة البصرة، مرتع صباه ومهد ذكرياته. وآية ذلك -طبقا لما ذكره نجدة فتحي صفوة (مصدر سابق)- أنه ساهم كثيرا في مشاريع تزويد البصرة بمياه الشرب النقية، وإنارتها بالكهرباء، وتحسين أوضاعها الزراعية، وتنشيط تجارتها، وتعميرها. وبسبب عشقه في الوقت نفسه لأرض آبائه وأجداده في نجد، وعلاقته المتينة مع ابن سعود، فقد أطلق في عام 1934 اسم «السعودية» على أحد الأحياء الواقعة على ضفاف شط العرب بالبصرة. فجاءه رد الجميل بعد سنوات حينما أطلقت السعودية اسمه على شارع من شوارع الرياض. كما لم ينس المنديل مسقط رأسه، الزبير، فأولاها رعايته وعنايته بدليل أنه اهتم بمشروع لجر الماء من شط العرب إلى الزبير، وتبرع لتأسيس مكتبة الزبير الأهلية. بعد اعتزاله السياسة والشأن العام في العراق سنة 1934 وجه المنديل جل اهتمامه نحو أعماله التجارية والزراعية، لكن أمراض الشيخوخة داهمته في منتصف عقد الثلاثينات، فساء وضعه الصحي وأصيب بالشلل قبل أن ينتقل إلى جوار ربه في الثاني من ديسمبر 1940، ويدفن في مقبرة الحسن البصري في الزبير، تاركا خلفه من الأبناء ماجد ومالك وسعود وأديبة ونزيهة، علما بأن الرجل تزوج من ثلاث نساء إحداهن أحسائية لم ينجب منها.