لم يخيب الروائي طاهر الزهراني أفق انتظار القارئ لروايته الجديدة «الفيومي»، إذ نسج حكاية محكمة ومؤثرة جعل من بطلها «عطية» (العاطل أو الفيومي) بطلا إشكاليا يخوض غمار حياة مدنية موسومة بالاضطراب النفسي والاغتراب، بعد محاولات عديدة للتكيف مع طقوس المدينة وفرص العيش فيها يقرر الذهاب للبحث عن جذور هويته بين جبال الديرة (ديار زهران)، ليجد ذاته وأصوله مرتويا من معينها الأصيل، لكنه بعد الزواج والاستقرار، انهار عليه الواقع والأحلام بسبب عادات قديمة ورعونة شيخ القبيلة الشاب «هيّاس». وبذلك تصبح الهوية والضياع سواء، والحياة والموت سواء، وكأن ما نهرب منه في الحقيقة هو ما ينتظرنا في نهاية المطاف؛ إذ هرب عطية من الموت المادي والرمزي في الحرب، ليجد أمامه موتا مضاعفا بين الجبال. وظف الزهراني بعوالمه المتخيلة في تلك الرواية (صادرة عن منشورات ضفاف والاختلاف) صورا من حياة الناس البسطاء في المناطق الجبلية ومن بينهم عطية وغالية والفيومية وحنش وغيرهم، لكن الشخصية الأكثر حضورا هي شخصية «عطية» الحائرة أمام الحواجز والعاجزة عن تخطيها، التي ستجد معادلا لهذا الواقع المستعصي من خلال التنفيس عن سخطها. ويمكن أن نستدعي صورة العاطل وهو يواجه شوارع جدة وإحباطه من عدم قدرته على إيجاد وظيفة، ليعود خائبا إلى البيت قبيل الظهيرة، ويذبح الخروف الضحية المؤجلة بدم بارد. في المقابل، سيتمكن من العثور على عمل في الجيش للمشاركة في القتال، لكنه سرعان ما سيجد نفسه قد انتقل إلى لحظة الحسم؛ إذ أصبح من الضروري أن يشارك في الحرب، خصوصا وهو يرى رفاقه يسقطون تحت رصاص القناص الحوثي ونظرا لبراعة عطية في القنص، فإنه سيلجأ إلى مهارته ليرد الصاع صاعين مستغلا احتمالا صغيرا تمكن من خلاله من القضاء على القناص العدو والقضاء عليه. ستدفع صور الحرب الصادمة عطية إلى تقديم استقالته والعودة للعمل رفقة والده، غير أنه سرعان ما سيمل حياة التجارة، لهذا سيختار الرحيل إلى الديرة. سيبقى القنص وأسراره سواء تعلق الأمر بتفاصيله الطبيعية أو بتقنياته وأسلحته مكونا سرديا بارزا في رواية طاهر الزهراني. بل يمكن القول إن الرواية تشيّدت أسسها على مكون القنص وربما ألفت الرواية من أجله. كما يطالعنا مكون سردي أساسي يتمثل في تقنية التضمين التي برع فيها الروائي، إذ استعاد تاريخ منطقة زهران وقبيلتها ليصبح أرضية لمتخيله ومنطلقها الحكائي. هذه المكونات تشكل معجما روائيا ثريا يلفت الانتباه إلى ظاهرة روائية عربية يستخدم فيها الروائيون مجالات مهنية أو عادات اجتماعية، مستحضرين معجمها ودلالته، وبهذا أصبح لدينا اتجاه روائي أنثربولوجي. ويمكن القول إن رواية الزهراني حكاية تراجيدية مثيرة عن الحرب وتداعياتها المأساوية. الحرب التي تمحو العاطفة الإنسانية، وتذروها رمادا ويبابا.