{ أوضح الروائي السعودي طاهر الزهراني إن الإنسان السوي يكره الحرب، ويتعامل مع أي حرب على أنها حرب أهلية، لا بد أن تنتهي في أقرب وقت، كون الإنسان البسيط هو الطرف الأضعف، وهو من يدفع فاتورة الحرب الباهظة. وأضاف في حوار مع «الحياة» أن مهمة الكاتب السعودي مضاعفة، مع ضرورة أن يتحلى بصفات تؤهله لأن يكون مبدعاً، ورغم شح حياتنا إلا أن المبدع سيجد لها محيطاً للاقتناص وصيد الأفكار، ومساحة واسعة لبوحه وسرده. طاهر أحمد الزهراني كاتب وروائي سعودي ولد في مدينة جدة 1978، وتخرج في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجدة. صدرت له رواية «جانجي» التي اشتهرت وتحكي قصة «مجاهدين» عرب وسعوديين اعتقلوا وقتلوا ولوحقوا من أميركا «التي تخشاها كل الحكومات. التي ترتجف من جيفارا وكاسترو وابن لادن. أميركا التي أسقطت العراق في بضعة أيام لا تستطيع أن تسيطر على أفراد لجأوا إلى قلعة من الطين (جانجي) وقبو لا يتجاوز عمقه الخمسة أمتار. وروايات أخرى مثل «نحو الجنوب»، ومجموعة قصصية بعنوان «الصندقة»، وأخيراً رواية «الفيومي»، وهي تتحدث عن عطية الفيومي: شاب بسيط، نزح أهله من تهامة قبل عقود، ليختاروا مدينة جدة مكان إقامة، ينحدر من أصول مصرية قدمت إلى الجزيرة العربية قبل قرنين من الزمان من أجل الحج، ثم انقطعت بهم السبل بسبب الحروب التي كانت تدور رحاها بين الأعراب والأتراك في ذلك الوقت. كيف توفق بين نزعتك الجنوبية وروح مدينة جدة التي تسكنك؟ وإلى أي مدى تشكل «الديرة» معنى ومكاناً يستحق الحفر فيه؟ سيما في ظل هذا الانحياز للمدينة؟ - في البداية نزح أبي من القرية إلى المدينة ليحصل على بعض المال، كي يجمع مهراً ويشتري بندقية، لكنه لم يعد! أنا ولدت في جدة، وترعرعت فيها، لهذا أنا وجيلي نعيش هوية مزدوجة، هل نحن أبناء المدن أم أبناء القرى، لهذا نعيش هذا الشعور في كل جوانب حياتنا، وربما هذا ما دفع البعض ليسكن الأحياء والحواري التي بها تكتل قبلي. في المقابل هذا الشعور هو ما دفعني لكتابة روايتي «نحو الجنوب»، وهو شعور جيد للكتابة، فأنت في النهاية تنتمي إلى هويتين، وتستطيع الجمع بينهما بحيث تنحاز للجمال، أنا متصالح مع هذا الشعور الذي تهذبه المعرفة. المكان يسهم بشكل كبير جداً في إثراء التجربة، وأنا لا أكتب إلا عن مكان أعرفه تماماً، لهذا أغلب رواياتي تدور ما بين جدة / المدينة والقرية/ الجنوب. في جدة تنوع بشري هائل، قد يكون جلوس في مقهى، أو لقاء بمسن في التاريخية، أو حديث مع بائع تحف قديمة، شرارة لكتابة عمل ما. وهناك ارتباط قوي أيضاً بالقرية تكرسه اللغة، والإرث، والعادات، ثم إن القرية مسرح نموذجي للكتابة، فهناك فضاء مفتوح، والتصاق بالبيئة والكائنات، وبعث دائم للإرث والحكايات، وعندما أكتب عن القرية فأنا أكتب عن مكان خصب للحكي، وتحضر فيه العناصر الأساسية للسرد. في روايتك الأخيرة «الفيومي» كان عطية الفيومي يشعر أن «جدة» لفظته، هل هو شعورك أم شعور بطل الرواية؟ ومتى تشعر بقرب شخصيتك، وهل من الضروري أن يكون هناك تشابه بين الكاتب وبطله الذي يكتب عنه؟ - ذكرتني بحوار ماركيز في كتاب «رائحة الجوافة»، كانت مهمة زوجته أن تخرج نظائر شخصياته الروائية من الواقع، وكان يوافقها على ذلك، وتقول ايزابيل الليندي: «الروائي بكل بساطة يعاني من حاجة لا يمكن السيطرة عليها ليحكي القصة» استشهدت هنا برمزين في عالم السرد، كي أبين لك ببساطة مقدار الترابط بين حياة الكاتب وما يكتبه، ربما تجد بعض من يكتب يذكر لك أن شخصياته تتحرك وفق اختياراتها، لكني أرى إذا لم يحمل عني بطل الرواية بعضاً من همي، ومواقفي تجاه الحياة، فإن عوامل الحياة تنقطع عنه، ولا يعني هذا أني أسيره وفق ما أريده، بل وفق ما تمليه لحظة الكتابة. لهذا ليس لدي مشكلة مع من يقول إن روايتي «سيرة ذاتية»، في الغرب تجاوزوا هذا الأمر تماماً، وظهرت اتجاهات عدة للسرد هناك، منها ما يعرف ب«التخييل الذاتي». لكني أرفض تماماً تصنيف البعض لرواية ما بأنها «سيرة ذاتية» لمصادرة الإبداع والمتخيل. الرواية واللهجة في هذه الرواية، هل تعوض حنينك عبر اللغة والأسماء، واللهجة، والإغراق في المحلية، وأنسنة الجمادات؟ - سبق وأن سُئلت عن هذا؛ في البداية القرية لم تكن إلا مسرحاً للأحداث فقط، ولو كان الأمر مجرد حنين فقط لاختلفت بنية العمل، ومساره، كنت واعياً لهذه القضية تحديداً، وكنت متقصداً أن أوظف اللهجة الجنوبية بهذه الطريقة، ولا أقول كنت مجازفاً عندما تخليت عن فكرة الحاشية المفسرة، لكن لا بد للكاتب أن يثق بذكاء القارئ، وفطنته، ووعيه الذي قد يفوق وعي الكاتب أحياناً. هناك أمر آخر له علاقة باللغة، وقرب المفردة من العربية الأزديّة تحديدا، وهو انسجامها مع المكان والأحداث، إذ بغياب هذه اللغة يخفت جمال العمل ويفقد بعض أصالته. بالنسبة لأنسنة الجمادات، هذا الأمر تشعر به، لا يستطيع أحد أن ينقل لك هذا الشعور بكل تجلياته، وانطباعاته، أنسنة الجمادات في القرية، ليست ترفاً فنياً، وإنما هي من صميم الحياة هناك، هو ذاك الشعور الذي تحس معه أنك والمكان في اتحاد وجداني، وهذا ما حاولت نقله للقارئ، ومثل هذا نجده في ثقافات الشعوب، وآدابهم، فشاعر المايا الكبير أمبرتو أكابال، عندما تقرأ قصائده قد تشعر بهذا الإحساس تجاه الأشياء. تعرضت للحديث عن الحرب في الحد الجنوب في بداية الرواية كون عطية الفيومي شارك فيها، هل يكون الكاتب محظوظاً كونه زامن حرباً ليكتب عنها؟ - ليس شرطاً؛ وحتى كتّاب روايات الحرب هم لا يكتبونها إلا احتجاجاً ورفضاً، الإنسان السوي يكره الحرب، ويتعامل مع أي حرب أنها حرب أهلية، لا بد أن تنتهي في أقرب وقت، كون الإنسان البسيط هو الطرف الأضعف، وهو من يدفع فاتورة الحرب الباهظة. الحرب هي ظرف، لكنها ظرف قاسٍ، والكاتب يهتم بالإنسان في أي ظرف كان، سواء في حالة السلم أو الحرب. هل هناك ما يمكن تسميته طاهر ما قبل «جانجي» وما بعده؟ - نعم؛ وهذا أمر طبيعي يمر على أي إنسان يقارف الكتابة والفن؛ فعلى سبيل المثال فإن جوخ تنقل من طور إلى طور حتى كون مدرسته في الفن. قبل «جانجي» كتبت «إيفه» و«الصراع الدامي» كانت محاولات أولى في الكتابة، يشوبها النقص، ومما زاد في تشويهها تدخل الرقيب في كل شيء، حتى في عناوينها، ثم إنها نُشرت في نطاق ضيق جداً. عام 2006 قدمت مسودة «جانجي» لوزارة الثقافة لفسحها، ولم تفسح، فتعاملت مباشرة مع ناشر عربي، وقد شعرت بالفرق، عندنا حتى عنوان عملك الذي تختاره قد لا يوافق عليه الرقيب، بينما مع ناشر خارجي، هذه الأمور ليس لها اعتبار. صدرت «جانجي» عام 2007 من بيروت عن طريق «دار رياض الريس» فماذا حدث؛ منعت الرواية بسبب تقرير رفع عنها، وهذا سبب لها رواجاً، ثم ترجمت الرواية من أحد منسوبي الوزارة التي منعت الرواية، وهذا أيضاً سبب ضجة حول الرواية، طبعاً كل هذه الأمور ليست لها علاقة بقيمة الرواية وإنما هي أشياء خارج سياق القراءة، لكنها قدمتني للناس، الآن لم تعد هذه الأمور تشغل بالي، لدي قراء يتابعون نتاجي، وينشدون القيمة في ما أكتبه، وأشعر أن هذه هي المسؤولية الحقيقية التي ينبغي للكاتب أن يرعاها حق الرعاية. قلت مرة إن غياب المرأة في الرواية السعودية يشبه واقعها، كيف ذلك؟ - قصة البشرية الأولى كانت المرأة هي الطرف الآخر فيها، الحكايات التي تداولها العالم بذورها النساء، ألف ليلة وليلة ما كان لها أن تجول العالم إلا بحضور المرأة صاحبة الحدث، والناقلة له. فكيف الأمر مع الرواية، وهي فن الحكاية الحديث، هات كل قصص العالم، وجميع الروايات الكلاسيكية، والحديثة، لا تكاد تقرأ رواية إلا وتجد أن حضور المرأة عنصر فعّال فيها، لماذا؟ ببساطة لحضور المرأة في حياة كاتبها، وأقصد بالحضور هنا الحضور الحياتي، كونها شريكاً مصيرياً للرجل في جميع تفاصيل الحياة، لهذا تجد الروائي السعودي تحديداً يلجأ أحياناً لتهجير الشخوص إلى أماكن أخرى تكون فيها المرأة حاضرة، أو تكون في بيئة تمارس فيها المرأة هامش حياة مثل القرية. لا بد أن نعترف بأن حضور المرأة عندنا محصور في نطاق العائلة فقط، لهذا تستغرب من البعض عندما ينتقد الرواية المحلية كون المرأة ليست حاضرة فيها! عندما نتحدث عن الرواية، فهي فن يحتاج إلى بيئة حرة، حتى يتجلى الإنسان على حقيقته، وتظهر مشاعره ونوازعه من دون مواربة، مما ينعكس على السرد إيجاباً. التجربة والكتابة قلت مرة إن «فقر التجارب الحياتية تسبب في خلق تجربة روائية متواضعة لدينا» ماذا ينقصنا تحديداً لنتمتع بحياة ذات تجارب ثرية؟ - في البداية أريد أن أوضح أن التجربة الحياتية هنا أقصد بها تلك التجارب التي تنعكس أثارها على الكتابة الإبداعية، ولا أقصد الاستفادة من تجارب الحياة لتوثيقها، هناك فرق بين هذا وذاك. نحن ليس لدينا حراك سياسي، ولا ثقافي، ولا عمّالي، لا تيارات، ولا نقابات، ولا مراكز أبحاث، الإنسان عارٍ لوحده، لا يستطيع أن ينقذه أحد إذا تكالبت عليه النوائب. أما عن ماذا ينقصنا؟ فأتصور أن هذا السؤال في حاجة إلى مراكز دراسات للإجابة عنه، حتى هذه تكاد تكون معدومة عندنا، وكون الإنسان يتردد في الكتابة لأنه يخاف العقوبة فهذا بحد ذاته دليل على عدم جاهزيته لفعل الكتابة، لولا عظمة اللغة وسحرها لما كتب أحد. في الدول التي تنعم بحضارة حقيقية، ينشأ الطفل على حياة ثرية، منفتحة على مواهب، وميولات، على هوايات، منفتحاً على جميع الفنون، والعلوم، وهو بعد في سنوات عمره الأولى، تربطه علاقة وثيقة بالعالم، يعيش كل مراحل تعليمه بحب وشغف، اقرأ إن شئت مذكرات ستيفان تسيفاغ «عالم الأمس»، اقرأ كتاب كونديرا «لقاء»، هؤلاء يتحدثون عن بعض ذكرياتهم قبل الحرب العالمية الثانية، عندما نقرأ لهؤلاء ندرك ماذا ينقصنا. إذاً، كيف يجد الروائي السعودي ما يكتبه؟! - هنا تكون المهمة مضاعفة على المبدع، إن الكاتب لا بد أن يتحلى بصفات تؤهله لأن يكون مبدعاً، ورغم كل ما ذكرته عن شح حياتنا إلا أن المبدع سيجد محيطاً للاقتناص وصيد الأفكار، ومساحة واسعة لبوحه وسرده. طرحت يوماً فكرة المحرر الأدبي، كمهنة تساعد الكاتب فلا تلقي على عاتقه عبء العمل كاملاً.. هل ما زلت من أنصار هذه الفكرة، وإلى أي حد تتقبل أن يتدخل الآخر في عملك.. لنقول إن الناشر هو الآخر حالياً؟ - قدرنا في العالم العربي أن يتحمل الكاتب كل الأعباء، من لحظة الكتابة – وما يتخللها من عوارض الحياة وخيباتها- إلى المراجعة النهائية، حتى تصميم الغلاف، وهو أمر يدعو للفخر بصراحة. في البداية أنا مع فكرة المحرر الأدبي، لكن من هو محررك؟ هذا سؤال في غاية الأهمية، في نظري المحرر إذا لم يكن قريباً جداً من الكاتب ونتاجه لا فائدة من وجوده، عمل المحرر الأدبي يبدأ من لحظة الفكرة إلى دفع المسودة للمطبعة، والمحرر يعرف مواطن القوة والضعف لدى الكاتب، ويعزز فيه هذا الأمر، بحيث يستثمر مواطن قوته، ويحاول أن ينبهه إلى مواطن ضعفه. في النهاية وجود المحرر الأدبي محلياً ضروري جداً، كون الرواية المحلية لا تزال في أطوارها الأولى. هل كونك لم تحظ بفرصة تعليم جيدة ولغة مزدوجة ما زال ذلك يشكل عقدة بالنسبة لك؟ - أضحكني هذا السؤال، لأنه أتى بعد الحديث عن مفارقات حادة. عندما عرفت المدرسة شِهِدتْ نافذة فصلي جريمة قتل، كنت لأول مرة في حياتي أشهد دماء آدمية بذلك القدر وأنا بعد في سنتي الدراسية الأولى، ثم انتقلت إلى مدرسة أخرى تغمرها مياه المجاري، المرحلة المتوسطة درستها في غرفة كانت عبارة عن مطبخ، في الثانوية كان زملائي يصفونني ب«صاحب الحالة النفسية»، لكني في تلك المرحلة زادت صلتي بالكتاب، عندما انتهيت من الثانوية، كانت لدي رغبة أن أدخل قسم التربية الفنية بكلية المعلمين بجدة لأتخرج معلم رسم، لكني رُفِضت، ولم تعد لدي رغبة في الدراسة الجامعية، لكني دخلت الجامعة منتسباً – من أجل أمي- في تخصص متوفر فتخرجت في الجامعة بتقدير مقبول، بعد خمس سنوات! كانت سنوات الدراسة عقوبة طولية لنا، فكيف نطالب الجيل بالعبقرية والإبداع والتميز، ثم لنقف وقفه نتأمل فيها حال الطلاب المتفوقين الذين مروا علينا أثناء الدراسة أين هم الآن؟! لنعرف وبال المؤسسة التعليمية علينا. وحتى تعرف هشاشة التعليم عندنا انظر إلى النتائج، إنسان يقضي نصف عمره في الدراسة، ويتخرج وهو لا يجيد لغة أخرى، حتى لغته يجهل قواعدها الأساسية، فيتخرج أناس يتقلدون بعض المناصب، وهم لا يجيدون الإملاء!