مرة أخرى يعاكس طاهر الزهراني مواسم الهجرة نحو الشمال، هجرة الجنوبيين نحو مساقط الضوء والرزق نحو المدن ويعود بنا نحو الجنوب كما فعل في روايته السابقة: (نحو الجنوب) ولكن عبر رواية أخرى عبر رواية «الفيومي». وباختلاف التفاصيل والأسماء وأبطال الحكاية إلا أن الجنوب هو ذات الجنوب بأرضه وجباله وبلغة الرصاص والبنادق والثأر والحب وحكايات القبيلة المتجذرة داخل كل جنوبي، شرّق او غرّب إلا أن القبيلة تظل هي الجدار الذي يتكئ عليه الجنوبي كما يتكئ على طقوس السيل والمطر والزرع وعلى التقدير المطلق للمرأة بوصفها شريكا لا كائن داخل ضمن الممتلكات. هل بدأت المدن تخذل القروي؟ والجنوبي تحديدا هذه المدن التي ترك الجنوبي ذات يوم من أجلها الأرض والعائلة وقبور الأجداد ومضى شمالا بحثا عن ما يجعل اللقمة أقل خشونة ومغموسة في شيء آخر غير العرق والملح الخشن. المدن الآن تضيق حتى بأبنائها وقوائم الوظائف طويلة ومستحيلة ولم يبق لعطية من خيار سوى العودة إلى الأرض (الجنوب) التي لم تتغير رغم شح الفصول وحيث بقيت الجدة فاطمة «الفيومية» نقطة اليقين في فوضى التحولات التي عصفت بكل شيء. ومن هناك من دار الجدة حاول عطية استئناف حياته بعد أن شارك في حرب الحد الجنوبي وحيث رأى عبثية الحرب ورأى صديقه يموت بجانبه وفي الطرف الآخر تموت أيضا روح بشرية أخرى، هذا الموت كسر شيئا داخل عطية وجعله يفكر في المغادرة والبحث عن مسار آخر للحياة رغم فداحة الثمن. غير أن صراع الحياة ليس في ساحة الحرب فقط ولكنه في كل مكان وكل يوم. وفي الأرض التي عاد إليها كان عليه أن يخوض معركته كل يوم.. معركة إعادة الحياة إلى الأرض.. ومعركة الانتصار لقلبه ضد التقاليد والجهل والتعصب القبلي وأخيرا معركة الحفاظ على الأرض وهي للجنوبي المعادل للعرض والتي ورغم حضور التاريخ في الرواية ومحاولة طاهر أن يجعلها رواية تاريخة حتى من خلال الاسم «الفيومي» إلا أنها بقيت رواية للأرض وبراعة الراوي في وصف الصيد والسيل وليل القرى والجبال العصية والتي يظن طاهر أو عطية أن أرضها معرضة للتلف والمحو كما تلفت ومحيت جبال مكة وكما يحدث الآن وحيث مقاومة الطوفان نوع من العبث. طاهر كتب روايته هنا وهو متكئ على نجاحاته السابقة كراو له لغته ومفرداته، واستخدم كثيرا اللغة المحلية وتركها كما هي دون هوامش وعلى من لا يفهمها أن يفتش عن معانيها وكأن طاهر يقول: ولماذا يكتب الآخرون بمفرداتهم المحلية ولماذا نحن الجنوبيين علينا دائما أن نفسر. وكتبها أيضا بأسلوبه السهل المباشر والمسكون بالحنين. نحن الجنوبيين تلامسنا الرواية كثيرا لأننا كلنا عطية وفاطمة وغالية. وكلنا نرتدي ذات «المصناف» ونعتمر ذات البندقية وكلنا العائدون من رحلة التيه دون مكتسبات. طاهر لامس الكثير من القضايا وربما المسكوت عنه ولكن بعيدا عن المعالجة الوعظية والفنان ليس مكلفا بذلك فقط هو الحادي للقافلة والضمير الحي في مجتمع يمجد كثيرا القدرية المطلقة وانتظار نجدة السماء «سماء عاجزة عن فعل شيء سوى النظر بزرقة باردة»، ولتبقى «الفيومي» رواية الخسارات خسارة الحبيبة..خسارة الأرض وأخيرا خسارة الحياة. «كان آخر شيء باشر الأرض بعد الرصاص المسكوب، دم الفتى الذي نزف ذاكرته بكرم جنوبي مشهود في الوادي، الذاكرة التي تنتظر السيل عله يجرفها للبحر، فيعرف البحر قدر الجبال». * قاص وروائي سعودي