التاريخ لا يعود للوراء، والزمن لا يستدير، لكنه ربما يعيد صوغ أحداثه في قوالب جديدة في محاولة منه لمحاكاة الماضي، أو ربما يمنح فرصة أكبر للاقتراب منه حين يجعل تحسس بعض ملامحه من خلال المقتنيات القديمة. هذه الاحتمالات قد تتغير في مقهى «أرباب الحرف»، فعند زيارته للمرة الأولى لن تجد صعوبة في التماهي مع الإطار الزمني المعتق الذي يطوق المكان، فهنا «تلفاز» يتجاوز عمره ال60 عاما، وعلى الرف الزجاجي في آخر المقهى أسطوانات موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب، ودون وعي ستجد نفسك تبتسم وأنت تعبث بقرص الهاتف القديم، وتكتشف أنك تعيش في ذاكرة حية تزخر برائحة الماضي لتعيد نثره في الحاضر، فالمسافة التي تحتسي فيها فنجان قهوتك تتناسب طرديا مع اكتشافك لحقيقة هذه الحاضنة الثقافية.. هذه هي رسالة المقهى الأولى التي ولدت منذ إنشائه قبل 7 أشهر بأيدي مؤسسه وصاحب فكرته عبدالله الحضيف، وفي أوقات الزيارات ثمة حراك ثقافي يديره شباب متنور في محاولة جادة وسعي حثيث لنشر الوعي وبث الفكر المتزن لمساندة الوطن ومواكبة قفزاته العملاقة، من خلال ما يعقده المقهى من مجالس ثقافية، وصوالين أدبية منتظمة طيلة أيام الأسبوع تختلف في مضامينها ولكنها تتفق في الوجهة. يسري شعاع الحياة في أرباب الحرف صبيحة كل سبت «صالون العقاد»، كجلسة نقاشية تطرق مواضيع في الفلسفة والثقافة والإعلام وغيرها، وتأتي التسمية أسوة بصالون العقاد الشهير الذي شغل مكانة مهمة في خريطة الثقافة في أربعينات وخمسينات القرن الماضي. أما مساء (الاثنين) فموعد مع «صالون الجواهري»، واقترانه باسم شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري يكشف النقاب عن هوية اللقاء، إذ هو لقاء الشعر بالفنون الأدبية الأخرى، مرورا بالرواية وليس انتهاء بالقصة. ولم يغب عن المقهى أن الفن جزء لا يتجزأ من ثقافات الأمم، ورافد مهم من روافد الحضارات الإنسانية، إذ يشكل إحدى اللبنات الأساسية التي تسهم في بناء الأمم وتقدمها، فكان «مجلس تاريخ الفن» الذي تعقده الفنانة التشكيلية والباحثة الأكاديمية نادية بوقري مساء (الثلاثاء) أسبوعيا، فتصوغ الفن في قالب معرفي، وتعيد قراءته من الجانب «الأنثروبولوجي» و«الأيديولوجي» والنظري والاقتصادي والاجتماعي أيضا، وما أن يلوح «مجلس الفن» بنهايته حتى يعلن «فان جوخ» حضوره من خلال «استديو فان جوخ للرسم التعبيري» بإشراف فنانين تشكيليين عدة. أما مساء (الأربعاء) فقد خصص للشاشة الكبيرة (مجلس الباتشينو السينمائي) الذي يضم نخبة من المهتمين بعالم السينما وصناعة الأفلام والإخراج وكتابة السيناريو، إذ يتم طرق العديد من المحاور المتعلقة بهذا العالم بصحبة ضيوف مختصين. ولا يمكن لبقعة تضج بالحياة كمقهى أرباب الحرف أن يغفل عن الموسيقى لغة الشعور كما وصفها الفيلسوف الألماني شوبنهاور أو أن يقصيها عن فضائه، ولكنه آثر أن تكون الرشفة الأخيرة في المقهى التي يتم احتساؤها على مهل في مجلس زرياب الموسيقى مساء (الخميس) أسبوعيا بصحبة الأوتار المدوزنة.